Author

مأزق واشنطن مع طهران وبيونجيانج

|

لعل من نافلة القول إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تعيش مأزقا مع الدولتين النوويتين الأكثر شغبا في العالم ونعني بهما كوريا الشمالية وإيران. وقد بدا ذلك جليا في خطاب ترمب الأخير أمام الدورة الـ72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي حفل بلغة التهديد والوعيد ضد الأولى بسبب أعمالها الطائشة في إطلاق الصواريخ البالستية وتهديد جاراتها، وضد الثانية بسبب خرقها بنود الاتفاقية التي وقعت عليها مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا.
ويتجلى المأزق مع طهران في عودتها إلى التخصيب وبناء قدراتها النووية والصاروخية دون حسيب أو رقيب في حال إعلان ترمب انسحاب بلاده من اتفاقية نيسان (أبريل) 2015 التي وقعتها إدارة سلفه باراك أوباما مع طهران بدعوى أنها "الاتفاقية الأسوأ التي وقعت عليها واشنطن في تاريخها" طبقا لما كرره الرئيس ترمب أكثر من مرة قبل وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، علما أن تحلل طهران من كل ما التزمت به بموجب الاتفاقية ليس مجرد احتمال أو تكهن وإنما بات أمرا مؤكدا طبقا لما ورد في خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 من أيلول (سبتمبر) الماضي، ناهيك عن أن النظام الإيراني قادر على الشروع في ذلك فورا. ولهذا السبب، صار الخطاب الأمريكي في الفترة الأخيرة ينحو نحو فكرة تعديل بعض بنود الاتفاقية، كي يتناغم مع المصلحة الأمريكية، بدلا من إلغائها.
والحقيقة المعروفة هي أن الاتفاقية الموقعة مع إيران حول برنامجها النووي احتوت على بنود سهلت على طهران استعادة أموالها المجمدة في المصارف الأمريكية منذ زمن الشاه والدخول في معاملات وصفقات مع كبريات الشركات والمؤسسات الأمريكية والغربية، لكنها لم تحتو في المقابل على بنود تفرض عليها تبني سياسات خارجية رشيدة ومواقف عقلانية بما في ذلك الموقف من الولايات المتحدة التي ظل حكام طهران يحرضون ضدها بشعارهم الأثير "مرك بأمريكا" -الموت لأمريكا-. كما أن الحقيقة المعروفة الأخرى هي أن التوصل إلى الاتفاقية كان نتاج سنوات من الابتزاز الإيراني للعالم عبر التلويح ببرامجها النووية، وخلال تلك السنوات كان نظام بيونجيانج الستاليني يراقب من كثب ما ستؤول إليه الأمور كي يبتز هو الآخر العالم بالسلاح نفسه.
وهاهي كوريا الشمالية في عهد زعيمها الطائش الحالي كيم جونج أون تريد أن تبلغ ما بلغته إيران بسياسات الابتزاز، بمعنى أن تجعل قوى العالم الكبرى تتهافت عليها وتخطب ودها وتقدم لها اتفاقية مشابهة للاتفاقية مع إيران، تعترف فيها بقدراتها النووية وتسمح لها بالاحتفاظ بها مع فتح الأبواب أمامها لنيل المساعدات والقروض وتوقيع الصفقات كما لو أنها دولة محترمة في المجتمع الدولي، وليست دولة مارقة تذيق شعبها الهوان وتهدد أمن واستقرار وسلامة شعوب المنطقة بأسرها. ولعل ما يشجع كيم جونج أون على الاستمرار في هذه السياسات الابتزازية هو تذبذب مواقف نظيره الأمريكي من النظام الإيراني وبرنامجه النووي والباليستي حتى الآن.
وانطلاقا من هذه النقطة ينشأ المأزق الأمريكي مع بيونجيانج. فإن تركت واشنطن الأخيرة لشأنها ولم تعر تهديداتها اهتماما فقد تذهب بعيدا في جنونها وغيها وسياساتها المدمرة للأمن والسلم العالميين. وإن وافقت واشنطن على التفاوض معها من أجل التوصل إلى اتفاقية شبيهة باتفاقيتها مع ملالي طهران، فإنها ستفقد ماء الوجه وتبدو كمن ركع للابتزاز تحت التهديد النووي لزعيم أهوج لدولة "عالمثالثية"، بل قد يشكل الحدث مبررا لقوى نووية أخرى للاقتداء بالكوريين الشماليين "باكستان مثلا التي لم يعد جنرالاتها يحتفظون بعلاقات دافئة مع مسؤولي البنتاجون الأمريكي بسبب اتهامات أمريكية لهم بالضلوع في دعم الجماعات الإرهابية المتطرفة في أفغانستان". أما إذا استبعدت خيار التفاوض، فإن البديل لن يكون سوى حرب باهظة التكاليف لا يمكن التكهن بحجمها وخسائرها ومداها الزمني وآثارها في حليفتي واشنطن اليابانية والكورية الجنوبية.
على أن كل الخيارات الأمريكية السابقة، ستتبخر تلقائيا في حال تمكن الأمريكيون وحلفاؤهم في شمال الشرق الأقصى من الإطاحة بنظام آل كيم الحاكم في بيونجيانج منذ أكثر من 70 عاما، وهو أمر صعب المنال في بلد حقنت دماء شعبه بأيديولوجية عبادة الفرد، حتى وإن كان الرئيس ترمب قد تطرق إلى الموضوع عرضا حينما كتب تغريدة في الـ24 من سبتمبر المنصرم قال فيها: إن "نظام كوريا الشمالية لن يعيش طويلا"، وهي التغريدة التي أثارت بيونجيانج وجعلتها ترد على لسان وزير خارجيتها "ري يونج هو" بالقول: "إن ترمب أعلن الحرب على دولتنا، وبالتالي فإن لدينا الحق في اتخاذ كل إجراء للدفاع عن النفس بما في ذلك إسقاط قاذفات القنابل الأمريكية في أي وقت وأي مكان". ولأن بيونجيانج تدرك ورطة واشنطن في كيفية مواجهتها، وتعي أن بكين وموسكو مصطفتان معها -وإن قالتا خلاف ذلك- فإن نباحها النووي العابر للقارات مستمر، وتهديداتها لا تتوقف، بل صارت أخيرا مشفوعة بأفلام وفيديوهات مصممة خصيصا لبث الرعب جراء ما سيحل بالكون من تدمير لو ضغط "الزعيم المبجل كيم جونج أون" زر القنبلة الهيدروجينية بـ"يده الكريمة" وهو مسترخ يأكل ما لذ وطاب، يستوي ذلك في حالتي بلوغ القنبلة هدفها أو سقوطها في المحيط.

إنشرها