Author

حكاية في الطائرة «2»

|
في مقالي السابق تحدثت عن تلك السيدة العجوز التي تمنت لو أنها لم تنجب بعد خيبة أملها في وحيدها الذي جرح قلبها جرحا لن تداويه الليالي مهما توالت. أما السيدة الثانية التي كانت تجلس على الكرسي الآخر فقد كانت قصتها مختلفة تماما، كانت دموعها تسابقها وهي تحكي حكاية تلك الروح الغالية التي غادرتها "منذ أربع سنوات أصيبت ابنتي الحبيبة بمرض مستعص لم يمهلها طويلا، كانت تذبل أمام ناظري وأنا أقف عاجزة عن تقديم أي شيء لها، طيبة قلبها وحنانها البالغ نحوي جعل قلبي يرتجف هلعا حين أخبرني طبيبها أن أيامها في الدنيا باتت معدودة، كيف سأعيش بعدها هكذا فكرت؟ وهل سأتحمل لحظة موتها؟ بل كيف سأتحمل عدم رؤيتها للأبد؟ ذات يوم أمسكت بيدي بحنان بالغ وهي تقول "أمي، أرجوك عديني ألا تدخني سجائر بعد اليوم أريدك أن تحتفظي بصحتك إلى آخر العمر" ووعدتها ومنذ مغادرتها للحياة منذ أربع سنوات لم أضع سيجارة بفمي، كانت تحمل همي وتحنو علي وكأني طفلتها المدللة، لم تعد الحياة كما كانت منذ رحيلها.. كل شيء أصبح لونه قاتما، لم يعد العالم كما كان، كأنها سحبت وراءها كل أنفاس السعادة والإحساس بالمتعة. ثم كشفت تلك السيدة غطاء رأسها قليلا وهي تقول لي: "انظري يا ابنتي شعري اكتسى بالبياض التام منذ رحيل حبيبة قلبي، وأنا التي كنت أتفنن في صبغات الشعر والاهتمام بنفسي، سلوتي الوحيدة من بعدها أطفالها الثلاثة، حين أشتاق لها أضمهم إلى صدري فأشعر بأنفاسها الغالية تتسلل نحو روحي". - في كل زمان ومكان وحقبة تاريخية سنجد مثل هذه الحكايات وسنروي ما يصادفنا منها وسنمضي، ولكن العبرة في الأثر الذي ستتركه في قلوب من سمعها وقرأها، فهناك من لا يزال أمامه متسع للتفكير، وهناك من سيمضي غير عابئ، وهناك من سيعض شفتيه بعد فوات الأوان. - لن أنسى رحلتي على تلك الطائرة إطلاقا، حيث والدتان مختلفتان في المشاعر والأمنيات والأحداث، لكن كل منهما كانت تبكي أمومتها بشكل مختلف، فالأولى تبكي ابنا عاقا جرح مشاعرها واستغنى عن وجودها في حياته وأشعرها أن الحياة من دونها ستكون أفضل حالا وأسعد، والثانية تبكي ابنة بارة مرهفة الإحساس رحلت من هذا العالم، فرحل معها كل إحساس بالسعادة من قلب هذه الأم المكلومة. كلتا السيدتين والدتان لكن الفرق بينهما: أن الأولى كانت تبكي ألما والثانية تبكي اشتياقا.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها