Author

مثالب النظام الصحي الأمريكي

|

تلفت تجارب وممارسات الولايات المتحدة أنظار العالم، نظرا لمكانتها وتميزها في المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية والتنظيمية، وغزارة المعلومات والبيانات والدراسات المتوافرة، والشفافية، والمصداقية، والنقد الذاتي الذي تقوم به مؤسساتها التي تحظى باحترام الباحثين ورجال الفكر والمتخصصين في المجالات المختلفة. وتتعرض تجربة الولايات المتحدة في المجال الصحي لنقد واسع بسبب المثالب التي تعانيها، وأبرزها ارتفاع تكاليفها، وعدم شمولية تغطيتها جميع السكان، وحلول الولايات المتحدة في مراكز متأخرة بين الدول المتقدمة في عدد من المؤشرات الصحية، وتدني عدالة توزيع الخدمات الصحية بين شرائحها السكانية، ولهذا يصعب على كثير من الباحثين التوصية باستنساخ التجربة الأمريكية الصحية في دول أخرى، ولكن يمكن من خلال دراساتها استخلاص العبر والتعرف على عيوب بعض السياسات في القطاع الصحي.
ترتفع تكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة مقارنة بباقي دول العالم، وذلك لعدة عوامل، من أبرزها تبني سياسات حرية الأسواق في هذا المجال المهم والضروري، حيث ترك القطاع الخاص - مقدم الخدمة - حرا في تحديد أسعاره وأجور العاملين فيه. وتشير دراسة مقارنة للولايات المتحدة وعشر دول متقدمة أخرى إلى أن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية في أمريكا ناتج عن ارتفاع الأسعار وليس عن كثرة استهلاك الخدمات الصحية. يعود ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية إلى عدة عوامل من بينها ارتفاع أسعار التقنيات الطبية والأدوية الجديدة، وترتفع أسعار أحدث التقنيات الطبية عند بداية استخدامها لاسترداد تكاليف التطوير وارتفاع الطلب عليها وإن كانت غير فعالة، ومن المعروف أن كثيرا من المعدات والأدوية الجديدة تطور في الولايات المتحدة، ومن أسباب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية الأمريكية تركيزها على الرعاية الصحية العلاجية التي ترتفع تكاليفها، بينما لا تولي الصحة الوقائية - منخفضة التكاليف - الاهتمام اللازم، ما يسهم في زيادة تكاليف الأمراض المزمنة واتساع انتشارها، وتتسبب الزيادة المتواصلة في الأمراض المزمنة، خصوصا في المراحل المتأخرة من حياة الناس في زيادة تكاليف الرعاية الصحية، كما يشجع نمط المعيشة والثقافة الاستهلاكية الأمريكية على استهلاك المواد الضارة بالصحة ما يرفع معدلات الأمراض المزمنة، يسهم اكتشاف أو إضافة أمراض جديدة كالسمنة، أو الإنفاق المتزايد على بعض الخدمات الطبية الكمالية كعمليات التجميل في رفع تكاليف الرعاية الصحية، إضافة إلى ذلك ترفع القناعات والتغيرات السياسية وبعض جماعات الضغط تكاليف الرعاية الصحية من خلال رفض أي قيود أو تأثير في أسعار الخدمات الصحية، ومقاومة الأنظمة والتشريعات التي تحد من الآثار السيئة لممارسات الأعمال الضارة على البيئة والصحة العامة.
تلعب طبيعة النظام الصحي الأمريكي دورا في زيادة تكاليف الرعاية الصحية، فوجود شركات التأمين الصحي الهادفة إلى الربح وتعددها يتطلب مصاريف إدارية ترفع تكاليف الرعاية الصحية. وتقدر التكاليف الإدارية لشركات التأمين بنحو 7 في المائة من إجمالي تكاليف الرعاية الصحية، وتصل التكاليف الإدارية للجهات الحكومية المشرفة على القطاع الصحي إلى نحو 2 في المائة من الإجمالي، إضافة إلى ذلك ترتفع تكاليف التأمين للممارسين الصحيين بسبب ارتفاع مخاطر دفع التعويضات مقابل الأخطاء الطبية وارتفاع تكاليف الخدمات القانونية المرافقة للقضايا الصحية، كما يسهم ارتفاع أجور الممارسين الصحيين في رفع تكاليف الخدمات الطبية، حيث تشير نسب الأطباء إلى السكان في الولايات المتحدة إلى انخفاض هذه النسبة مقارنة بعدد الدول المتقدمة، وتوجه اتهامات للجمعيات المهنية الصحية الأمريكية بأنها تحاول الحد من عدد الممارسين الصحيين من خلال فرض شروط قاسية للحصول على الرخص المهنية.
على الرغم من الإنفاق الكبير على الرعاية الصحية في الولايات المتحدة لا يتمتع نحو 30 مليون شخص بتغطية صحية، وهذا يعرض كثيرين لمخاطر المرض والوفاة، ووصل عدد غير المتمتعين بالتغطية الصحية إلى نحو 50 مليون شخص قبل تطبيق ما يسمى برنامج "أوباما للرعاية" الذي استفاد منه نحو 20 مليون شخص، لكن إلغاء هذا البرنامج سيرفع فيما بعد عدد غير المغطين بالتأمين الصحي. وتشير بيانات التغطية الصحية إلى ارتفاع مخاطر عدم التغطية الصحية وكذلك انخفاض مستوياتها للشرائح السكانية الأقل حظا، كالأقليات والنساء والعاطلين عن العمل والعاملين في المؤسسات الصغيرة أو العاملين بالحد الأدنى للأجور، كما يذكر الأطباء أن نسبة كبيرة تصل إلى 60 في المائة من المرضى يعانون صعوبات في تغطية تكاليف الرعاية الصحية، وترتفع حالات الإفلاس بسبب الرعاية الصحية حيث تصل نسبتها إلى نحو ربع حالات الإفلاس، وسيفاقم ارتفاع معدلات تضخم أسعار الخدمات الصحية خلال السنوات المقبلة من تكاليف الرعاية الصحية ومعضلات الشرائح السكانية الأقل قدرة على الحصول عليها.
عموما يتجلى فشل الأسواق بشكل واضح في تجربة النظام الصحي الأمريكي، فعلى الرغم من البرامج الحكومية الصحية مرتفعة التكاليف التي تهدف إلى سد الثغرات في عمل الأسواق ما زال النظام الصحي الأمريكي يعاني مثالب ضخمة أدت إلى خفض مؤشراته الصحية، ومن أبرز تلك المؤشرات العمر المتوقع عند الولادة، حيث حلت الولايات المتحدة في المركز 32 بين دول العالم، كما حلت الأخيرة في تدني معدل وفيات المواليد بين الدول المتقدمة أو 56 عالميا.

إنشرها