Author

هوية الأنا وهوية نحن

|

كان مغرما بالفلسفة، نقاشا، وقراءة لكتبها، كما كان يهتم بمعرفة ثقافات المجتمعات الأخرى وقيمها، وعاداتها، وتقاليدها، وكثيرا ما نتناقش بشكل مقارن بين المجتمع الأمريكي، والمجتمع السعودي، ما شجعني على إهدائه نسخة مترجمة لمعاني القرآن الكريم. ولشغفه الشديد بالقراءة، وحب الاستطلاع الشديد أصر على مناقشتي، أو بالأحرى الاستفسار مني عن بعض المفاهيم التي قرأها في نسخة معاني القرآن، وكان ذلك بعد أسبوع من الإهداء.
أبرز ما فاجأني به هو الثناء الشديد على الإهداء، ومن ثم عبر لي عن جهله بالإسلام، وإعجابه بما ورد في ما قرأه خلال أسبوع، وقال بكل حماس لقد استوقفته الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وخلال النقاش أوضح لي سر إعجابه بهذه الآية التي وجد فيها النظرة الواسعة للإسلام، الشاملة لكل شعوب، وقبائل الكرة الأرضية، بلا استثناء، وعبر عن هذا المفهوم من خلال مفهوم النزعة الأممية لكل الناس، وإن كان هذا المفهوم يتداخل مع المفهوم الاشتراكي، فترجمت له الآيتين: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس".
إنه الدكتور بيرمان، أستاذ فلسفة التربية، الذي كان يتذمر من النزعة الرأسمالية الجشعة لدى أصحاب رؤوس الأموال، وملاك الشركات، والمصارف، وتجارة السلاح، إذ لا يخفي تذمره مما ينتظر العالم بفعل سياسات الجشع، وجمع المال حتى لو كان على حساب حياة الناس، وقوتهم ومصادر رزقهم.
أردت بهذا المدخل الحديث عن الهوية التي تتشكل لدى الفرد، أيا كانت طبيعة الهوية، فردية كانت أم جماعية، فالهوية ذات النزعة الفردية يكون صاحبها ميالا للتمركز حول ذاته، منكرا لما يمكن أن يجمعه من مشتركات دينية، واجتماعية، وثقافية مع الآخرين، كما لو أنه ولد في مكان منعزل عن الآخرين. وخطورة الهوية الفردية الشديدة التمركز حول الذات وما يصاحبها من أنانية مفرطة، وجشع يؤدي بصاحبه إلى إنكار الآخرين بثقافاتهم، وحقوقهم، وكأنه لا أحد في هذا الوجود إلا هو ليعيش فيه. أما الهوية الجماعية فهي أوسع، وتضم في دائرتها كثيرا من الأفراد وفق انتماء عرقي، أو ديني، أو ثقافي، أو انتماء وظيفي ومهني، أو رابطة هواية، كالانتماء لناد رياضي أو اجتماعي.الهوية الجماعية يعترف صاحبها بالآخرين، ولا ينكرهم، خاصة أولئك الذين ينتمي وإياهم للرابطة نفسها، أيا كانت طبيعتها، إلا أنها قد تكون ضيقة محدودة في حدود المكان، أو الثقافة، وخطورتها ما يترتب عليها من عنصرية تؤدي لرفض الآخر المختلف عنهم، وهذا ما نجده في كثير من المجتمعات مثل ما هو موجود في الولايات المتحدة من انتماءات عرقية ضيقة كالبيض، والسود، والهنود الحمر، وغيرهم من الأعراق، حتى أن الأمر يصل إلى الاعتداء والقتل، بل والرفض الكامل، وهذا يحدث لأن الانتماء لجماعة يشعر أفرادها بالقوة ويحرك فيهم حمية الانتماء.
الانتماء الفكري يمثل أحد أسس تشكيل الهوية الجماعية، فوجود منظرين في فئة أو جماعة يعزز ويؤصل الانتماء الضيق حسب القناعة الفكرية التي يحملها، ويقتنع بها الفرد ما يقربه من آخرين يؤمنون بما يؤمن به من فكر.
الهوية الفردية يعبر عنها أصحابها بلغة الأنا، ولعل أبرز الأمثلة المتنبي إذ كثيرا ما يشيد بذاته ويمتدحها، كما في قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
مثل هذه الأبيات وغيرها تكشف نزعة التمركز حول الذات، والغرور الذي يعيشه المتنبي، ومثل هذه الحالة النفسية تجعل صاحبها ينسب لنفسه ما لا ينطبق عليه، كما في قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
على النقيض من ذلك نجد أن الهوية الجماعية تعبر عن ذاتها من خلال لغة الجمع بدلا من أنا، كما في قول الشاعر:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقول الآخر:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
اللغة المسموعة لا تعبر بالضرورة عن الهوية الحقيقية فردية، أم جماعية، فالبعض يكرر لغة الجماعة والمصلحة العامة، ثم لا يلبث أن يظهر على حقيقته حين ينحاز لمصالحه الشخصية البحتة منكرا حقوق الآخرين ومصالحهم ومتعديا على المصلحة العامة التي كان يتشدق بالحديث عنها. إن الهوية الجماعية تعبر عن صدق الانتماء بسلوك وتصرفات تؤكد الأقوال وأولها المحافظة على المال العام والمرافق والممتلكات العامة، إضافة إلى مراعاة القيم الاجتماعية التي تقوي روح الانتماء. بالتجربة ثبت فشل الانتماء الأممي الذي كانت ترفع شعاره الاشتراكية لفقدان المشتركات بين الفكرية والقيمية بين سكان الأرض، في حين أن الانتماء الديني أثبت قيمته وحضوره عبر العصور وإن خمل أحيانا.

إنشرها