Author

تهور سياسي في بيونجيانج ونضج في نيودلهي

|
أما التهور السياسي فيتجسد في الطيش والمغامرات الحمقاء التي مارسها وما زال يمارسها نظام كيم جونج أون في كوريا الشمالية، وهذا لا حاجة لنا لتفصيله وإقامة الدليل عليه لأنه بات أوضح من الشمس في كبد السماء. وأما النضج السياسي فنجد تجلياته لدى القيادة الهندية خلال علاجها لأزمة هضبة "دوكلام" مع جارتها الصينية، علما بأن هضبة دوكلام تشرف على التيبت ومملكة بوتان وولاية سيكيم الهندية، وتمثل قيمة استراتيجية كبيرة للصينيين لأن من يحتلها تسهل عليه مراقبة تحركات وتجمعات القوات الهندية في السهول المحيطة. وهذه الأزمة لمن لم يسمع بها بدأت في منتصف حزيران (يونيو) الماضي حينما لاحظت السلطات في مملكة بوتان الجبلية الصغيرة أن وحدات من الجيش الأحمر الصيني تشق طريقا بطول 270 كيلومترا في هضبة دوكلام خلافا لبنود اتفاقية قديمة وقعت قبل 100 عام بشأن الحفاظ على الأمر الواقع وتوازن القوى في منطقة الهملايا. هنا سارعت بوتان إلى الاستنجاد بالهند على اعتبار أن التدخل الصيني يهددهما معا خصوصا أن بوتان تعتبر من أهم وأخلص حلفاء الهند في منطقة جنوب آسيا. وبالفعل حركت نيودلهي قواتها إلى هضبة دوكلام لردع الصينيين، فيما لوّحت بكين بالرد العسكري إذا لم تنسحب القوات الهندية زاعمة أن دوكلام ليست بوتانية وإنما جزء من إقليم التيبت الخاضع للصين منذ أواخر الخمسينيات، مضيفة أن الهند ليست لها علاقة بالموضوع وتحشر نفسها نيابة عن بوتان. على أنه بعد مضي أقل من أسبوعين من المناوشات والمواجهات الإعلامية تراجعت بكين إلى ما وراء حدودها الدولية، فقررت نيودلهي في اللحظة نفسها سحب قواتها من دوكلام، لتنتهي بسلام أزمة كادت تشعل حربا ثانية بين الهند والصين النوويتين لولا الحكمة والنضج السياسي لدى صناع القرار في نيودلهي وبكين ممن آثروا التراجع عن التصعيد لمصلحة السلام والاستقرار. ويمكن القول إن قمة مجموعة "بريكس" الأخيرة في الثالث من سبتمبر الجاري أسهمت في حلحلة الأمور. ذلك أن الهند أبلغت الدولة المضيفة للقمة وهي الصين أنها ستقاطع الاجتماع ما لم تسحب الصين قواتها من دوكلام، وكان غياب الهند يعني تلقائيا غياب بقية دول المجموعة وهي روسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، وبالتالي تجرع الصينيون الفشل والإحراج. ويبدو أن صفقة ما عقدت من وراء الكواليس وافقت بموجبها نيودلهي على حضور القمة منعا لفشلها مقابل استجابة بكين للشرط الهندي المسبق. إن ما يعنينا في هذه الأزمة، ليس فقط تغلب لغة العقل وإيثار مصلحة الأمة على لغة الطيش والحماقة والعناد المؤدية إلى دمار الأوطان وهلاك الشعوب، وإنما أيضا ما شاع على هامشها من احتمال وجود صراع متنام في بكين بين القيادة السياسية والحزبية ممثلة بالرئيس شي جينبينج والقيادة العسكرية ممثلة بكبار ضباط جيش التحرير الشعبي. وبطبيعة الحال، من الصعب في دولة تنقصها الشفافية كالصين، اكتشاف الحقيقة بتفاصيلها الدقيقة. غير أن هناك من المؤشرات ما يمكن البناء عليه لتأكيد موضوع الصراع المشار إليه. المعروف أن الرئيس جينبينج سعى منذ وصوله إلى السلطة عام 2013 خلفا لـ"هو جينتاو" إلى فرض هيمنته على الدولة والحزب والجيش في محاولة طموحة للبروز والارتقاء إلى مصاف الزعيم المؤسس "ماو تسي تونج". ومن ضمن ما فعله في هذا السياق إصلاح المؤسسة العسكرية من خلال ابتكار منصب "رئيس هيئة الأركان المشتركة لجيش التحرير الشعبي" ومنحه للجنرال فانج فينج هوي في عام 2012. ما حدث بعد ذلك هو أن الرئيس جينبيج لاحظ أن جنراله الكبير المسؤول عن جيشه العرمرم واستخباراته المنيعة يحاول المزايدة عليه في الحرص على سلامة الصين والدفاع عن أراضيها وحدودها ومصالحها، فيتخذ قرارات تسبب لرئيس البلاد وقائد الحزب الحاكم الإحراج أمام الدول الأخرى. وفي هذا السياق كتب "براهما شيلاني" الخبير في الشؤون الاستراتيجية في صحيفة "يابان تايمز" أن الجنرال فانج هو الذي أمر قواته بالتوغل في هضبة دوكلام، وأن فتيل الأزمة لم ينزع إلا بعدما أقال الرئيس جينبينج جنراله المشاغب، وعين مكانه جنرالا آخر من أبطال الحرب الصينية - الفيتنامية هو لي زيو شينج. يذكر أن الجنرال المطرود فانج فينج هوي، الذي فشل في قراءة الحسابات الاستراتيجية وردود الأفعال الهندية يوم أن دفع بقواته نحو أراضي مملكة بوتان، له سوابق في إزعاج رئيسه وإحراج بلاده دبلوماسيا. ففي عام 2014 مثلا، وبينما كان الرئيس جينبينج يقوم بزيارة رسمية لنيودلهي، بل يحضر حفلا بمناسبة عيد ميلاد نظيره الهندي "ناريندرا مودي"، توغلت القوات الصينية، بأمر من الجنرال فانج، في منطقة لاداخ الشمالية الهندية. وقبل نحو عام من ذلك حدث شيء مشابه وذلك حينما توغلت القوات الصينية مسافة 19 كيلومترا داخل الأراضي الهندية في منطقة لاداخ أيضا في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء الصيني السابق لي كيجيانج يقوم بزيارة رسمية لنيودلهي. وبطبيعة الحال هناك من حلل الحالات الثلاث المذكورة من منظور تبادل الأدوار بين القيادتين السياسية والعسكرية في الصين، بمعنى ممارسة الرئيس تكتيكات ناعمة مع الدول المنافسة والمجاورة عبر تبادل الزيارات وتوقيع الاتفاقيات وإصدار البيانات المشتركة المطمئنة، وممارسة قائد الجيش تكتيكات صلبة تتمثل في التهديد والوعيد وصولا إلى التوغل العسكري الفعلي.
إنشرها