FINANCIAL TIMES

مسلمو فرنسا .. مرارة العيش في ظل شبهة الإرهاب

مسلمو فرنسا .. مرارة العيش في ظل شبهة الإرهاب

في أيار (مايو) 2015، واجه حليم عبدالملك أمرا غير طبيعي عندما جلس على دراجته النارية بالقرب من منزل والدته في الدائرة الـ13 في باريس. أثناء تحدثه إلى زوجته مليكة في اتصال هاتفي، توجه نحوه ضابط شرطة ومعه كاميرا، والتقط له عدة صور ولاذ بالفرار.
بعد فترة قصيرة كان عبدالملك يُستجوَب من قبل شرطة مكافحة الإرهاب الذين أخبروه بأنه شوهد بالقرب من منزل رئيس تحرير "تشارلي إبدو"، المجلة الساخرة التي تعرضت لهجوم من قبل متطرفين مسلحين في وقت سابق من ذلك العام - في بداية موجة جديدة من الهجمات الإرهابية المميتة في فرنسا. قال عبدالملك إنه لم يكن يعلم بأهمية الموقع. وتم إطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة.
بعد مضي ستة أشهر، وفي أعقاب جريمة راح ضحيتها 90 شخصا ممن قدموا لحضور حفل موسيقي في موقع باتاكلان، إلى جانب قتل 40 آخرين في الشوارع والمقاهي من قبل عدد من الانتحاريين من تنظيم داعش، تلقى عبدالملك رسالة من وزارة الداخلية تطلب منه أن يذهب إلى مخفر الشرطة المحلي الأمر الذي فعله. أدرك هذا الأب لطفلين الذي يبلغ من العمر 35 عاما، أن عبء الإثبات لم يعد من مسؤولية الشرطة، بل من مسؤوليته هو.
في اليوم السابق، أعلن الرئيس فرانسوا هولاند حالة الطوارئ في البلاد. قيل لعبدالملك إنه من الإرهابيين المشتبه بهم لأنه كان يرتاد مسجدا تعتبره الشرطة "متطرفا" ولأن اسمه ظهر في قضية سيارات مسروقة تشمل إسلاميين مشتبه بهم -كان في الواقع مجرد شاهد في التحقيق.
تم اعتبار وجوده بالقرب من منزل رئيس تحرير "تشارلي إبدو" أمرا مثيرا للشبهة أيضا. كان يتعين على عبدالملك، وهو ابن لمهاجرين جزائريين تعرض لمأزق مع الشرطة عندما كان في سن المراهقة لكن سجله أصبح نظيفا منذ ذلك الحين، البقاء في المنزل كل ليلة، والذهاب ثلاث مرات يوميا إلى مركز الشرطة، وعدم مغادرة فيرتي-سور سين، إحدى ضواحي باريس الجنوبية.
يتذكر عبدالملك، الذي تمت تبرئته منذ ذلك الحين، قائلا: "قلتُ في نفسي يا للعجب. لقد كان أمرا هائلا. وكنت أشعر بالصدمة. يبدو الأمر كما لو أنهم قد وضعوا علامة على وجهي: الإرهابي الملتحي".
وفقا لوزارة الداخلية، عبدالملك واحد من 439 مواطنا فرنسيا -معظمهم من المسلمين- تم إخضاعهم للإقامة الجبرية في المنزل في إطار حالة الطوارئ. تم إطلاق سراح الأغلبية، على الرغم من أن 69 شخصا لا يزالون قيد الإقامة الجبرية. حالة الطوارئ، التي تم تمديدها ست مرات، سمحت أيضا للشرطة بمداهمات بلغ عددها 4336 مداهمة استهدفت منازل ومساجد، وأدت إلى إغلاق 16 مسجدا.
إيمانويل ماكرون، الذي انتخب رئيسا لفرنسا في أيار (مايو)، كان يعتزم إنهاء حالة الطوارئ. خلال حملته الانتخابية، وقف هذا السياسي الليبرالي إلى جانب تقرير برلماني توصل إلى أن توسيع صلاحيات الشرطة أسفر عن نتائج "متواضعة" فقط. في كتابه "الثورة" الذي نشر بعد عام من هجوم باتاكلان، كتب ماكرون أن القوانين التي سنت أخيرا التي تعزز صلاحيات القضاة المعادين للإرهاب وأدوات المراقبة الخاصة بأجهزة الاستخبارات كافية للتصدي لتهديد الإرهاب.

تغيير الموقف

لكن منذ توليه السلطة عمل الزعيم الذي يبلغ من العمر 39 عاما على تغيير موقفه بشكل عجيب. فهو يعتزم تحويل الجزء الأكبر من صلاحيات حالة الطوارئ إلى قانون عادي قبل انتهاء صلاحية المرسوم في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
يؤكد هذا التحول الضغط الشديد الذي تشعر به السلطات الفرنسية بعد أن أسفرت هجمات الإرهاب المرتبطة بالمتطرفين عن مقتل 239 شخصا خلال العامين الماضيين. ووفقا لمركز تحليل الإرهاب في باريس، فرنسا هي الهدف الأول لتنظيم داعش في الغرب، حيث استأثرت بما نسبته 30 في المائة من الهجمات أو المؤامرات المحبطة المرتبطة بالجماعة المتطرفة. بعد عملية طعن امرأتين بالقرب من محطة قطار مرسيليا من قبل مواطن تونسي يوم الأحد الماضي طالبت زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، مارين لوبن، التي خسرت الانتخابات أمام ماكرون في جولة الإعادة، بأن يشدد الرئيس الإجراءات الأمنية للتصدي لـ"أعمال الحرب".
وطالب سياسيون من يمين الوسط بتمديد حالة الطوارئ. مع ذلك، يقول نقاد إن خطة ماكرون لجعل بعض التدابير المتخذة دائمة تُعلي من شأن انتهاكات الحريات المدنية. يحذر قضاة ومحامون من أنها ستزيد من الإضرار بمبدأ افتراض البراءة في المسائل المتعلقة بالإرهاب وعلى هذا النحو "تلوث" سيادة القانون والنظام القضائي برمته. ويذكرون أيضا بأنها قد تؤدي إلى مزيد من أخطاء الشرطة، مع تحديد بعض المشتبه بهم باستخدام معلومات استخبارية واهية أحيانا.
تقول منظمة العفو الدولية إن التشريع "يدوس" على كل الحقوق التي "تم انتخاب" ماكرون من أجل التمسك بها. وحذر جاك توبون، أمين عام ديوان المظالم في البلاد، المسؤول عن الدفاع عن الحريات المدنية، من أن الخطة من شأنها تهديد التماسك الاجتماعي من خلال وصم المسلمين الذين يشكلون 7 في المائة من السكان.
يقول ويليان بوردون، محامي عبدالملك، الذي يشير إلى أن سلطات حالة الطوارئ أدت فقط إلى 20 محاكمة مرتبطة بالإرهاب: "الهجمات الإرهابية جعلت السياسيين الفرنسيين يَعْلقون في دوامة أمنية لا يمكنهم الخروج منها، وهم لا يريدون أن يوصَفوا بأنهم عاجزون عن التصرف. وهذا صحيح في كل مكان، لكنه أكثر حدة في فرنسا. وهذه العقلية تعمل ببطء على تحويل عبء الإثبات إلى المدعى عليهم".
حالة الطوارئ التي أُدخِلت لأول مرة عام 1955، عندما كانت فرنسا تختلج بتشنجات حرب الاستقلال في الجزائر، تمنح الشرطة صلاحيات هائلة. يسمح لرجال الشرطة بشن غارات وتفتيش المنازل ليلا ونهارا، واحتجاز المشتبه بهم وإخضاعهم للإقامة الجبرية، وإغلاق المنظمات إذا تم اعتبارها مصدرا لتهديد النظام العام. ويمكنهم العمل دون مذكرات أو موافقات من القضاة، وإلى حد كبير استنادا إلى تقارير الاستخبارات غير المؤكدة والشهادات مجهولة المصدر. من بيت كل البلدان الأوروبية التي عانت الهجمات -المملكة المتحدة وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا- كانت فرنسا الوحيدة التي فرضت حالة طوارئ.
تقول الحكومة إنه لا خيار أمامها في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تستغل ضعف الأنظمة القانونية الغربية التي توفر حماية أكبر للمدعى عليهم.
قال جيرار كولوم، وزير الداخلية، أمام البرلمان في تموز (يوليو): "عندما أنظر إلى عدد القضايا التي تنظر فيها أجهزة الاستخبارات لدينا، أقول لنفسي إن التهديد لا يزال كبيرا جدا". لم يعد الإرهابيون المحتملون جزءا من الخلايا المنظمة كتلك التي تقف خلف هجوم باتاكلان، كما يقول. تواجه الشرطة الآن أفرادا منفصلين مصدر إلهامهم هو الدعاية التي يطلقها تنظيم داعش، وبالتالي يصعب تحديد هوياتهم. قال كولومب: "انتقلنا من تهديد خارجي إلى تهديد داخلي".
في شباط (فبراير) تم اعتقال رجل وزوجته لتخطيطهما لهجوم انتحاري في وسط مونبلييه، جنوبي فرنسا. وجاءت عملية الاعتقال بعد غارة مرتجلة للشرطة على مسجد دخلا إليه، وفقا لكورالي دوبوست، إحدى أعضاء فريق يعمل مع لا ريبابليك آن مارش، العضوة التي تم انتخابها أخيرا ضمن المجموعة المنتمية لحزب ماكرون التي هي ضمن لجنة في الجمعية الوطنية تتفحص مشروع القانون.
تقول دوبوست، المحامية السابقة لحقوق الإنسان: "نحن لا نتحدث عن أعداد كبيرة. هناك ربما 20 فردا خطيرا. لكن لا يمكننا التغافل عنهم لأنهم قد يتسببون في حدوث ضرر كبير. نعم، هذا يعمل على تعطيل ثقافتنا القضائية. لكننا بحاجة للتكيف مع التهديد. نحتاج لوجود آلية تسمح لرجال الشرطة بتبديد الشكوك بسرعة كبيرة".
تأثير التشريع الجديد ليس كاسحا مثل تأثير حالة الطوارئ الكاملة التي تغطي أي تهديد للنظام العام، وليس فقط أعمال الإرهاب. وأضاف أعضاء مجلس النواب أيضا ضمانات وخففوا بعض التدابير. وسيكون للمشتبه بهم محيط أوسع للانتقال والتحرك خلاله وسيتم منحهم خيار ارتداء أساور إلكترونية. لكن النقاد يقولون إن القضاة سيحظون بسلطة ضئيلة لمواجهة ما يسمى "الملاحظات البيضاء"، وتقارير الاستخبارات التي لا يُذكَر فيها المصدر والتي تشكل أساس القرارات التي يتم اتخاذها.
وتعترف دوبوست بأن التشريع قد يكون خطيرا في الأيدي الخطأ. كتقول: "لا أود رؤية الجبهة الوطنية تستخدمه". وأدخلت الحكومة شرط انقضاء التشريع عام 2020، للسماح بإجراء مراجعة شاملة للتدابير قبل عامين من إجراء الانتخابات الرئاسية.
وتعترف أيضا بأن نوعية الاستخبارات يمكن أن تكون مشكلة، بما في ذلك التحيز بين بعض ضباط الشرطة. وتقول: "سيرون اللحية وسيتوصلون للنتائج مباشرة. نحن لا نقول إن التشريع مثالي".
ومنذ عام 2008 خضعت خدمات مكافحة الإرهاب الفرنسية لعمليات إصلاح متعددة أسفرت عن تخفيف شبكة من ضباط الميدان تم تشكيلها على مدى قرن من الزمن. وتوصل تقرير برلماني صدر العام الماضي إلى أنه تم توجيه كثير من التركيز على عمليات تعقب فائقة التكنولوجيا للبحث عن "دلائل قوية" للجماعات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة، على حساب الإرهابيين المولودين في فرنسا من ذوي المستوى الأقل.

محنة توني جيليه

ويخشى معارضو مشروع قانون ماكرون المعادي للإرهاب من أن التشريع سيعمل على إعادة إحياء شكل من أشكال السلوك الذي ميز أحلك الساعات التي عاشتها فرنسا أيام الاحتلال النازي: الإدانة.
توني جيليه (34 عاما) وهو أب لطفلين اعتنق الإسلام عندما كان في سن المراهقة، احتاج إلى بعض الوقت ليتفهم السبب في قيام القوات الخاصة بتفجير باب شقته بالمتفجرات في الرابعة من صباح 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
عملية البحث التي دامت أربع ساعات، أمام صراخ زوجته وطفليه الخائفين، أدت إلى إصابة جيليه في جمجمته. رافقته الشرطة إلى الخارج وهو مكبل اليدين على مرأى من جيرانه. تم استجوابه لمدة 30 ساعة ووضعه تحت الإقامة الجبرية في البيت حتى 26 شباط (فبراير)، عندما تم رفع الأمر. علم جيليه لاحقا، وهو عضو في نادي الصيد، أن رئيس النادي أبلغ عنه. يقول جيليه: "جاء رجال الشرطة للتفتيش على التراخيص وكانوا قد سألوا عن أعضاء من مختلف الأديان. أراد رئيس النادي تجنب المشاكل".
قضت المحاكم الفرنسية بأن الإقامة الجبرية لكل من جيليه وعبدالملك لم تكن مبررة. لكن حياتيهما انقلبتا - تراجعت صحة الأول وتعثرت تجارة الآخر. وحتى الآن لم يتلق أي منهما تعويضات من الدولة.

استهداف المساجد

لكن ما هو أكبر حتى من الاعتقالات!ربما كان التركيز على المساجد الذي أدى إلى تأجيج مشاعر بأن التدابير لم تكن فقط تستهدف الإرهابيين، بل يتم استخدامها لإخضاع المجتمع المسلم في فرنسا للملاحظة.
أغلقت الشرطة عددا من المساجد التي يسيطر عليها من يعتقد بعض الباحثين الأكاديميين أمثال جيل كيبيل، الأستاذ في كلية العلوم السياسية، الذي يقدم المشورة لماكرون، أنهم يقدمون أساسا فكريا للجهادية.
يقول فنسنت برينجارث، المحامي الذي يمثل مسجدا في إكويفيلي، شمال غربي باريس: "لكن من هو الذي سيحكم على الأفكار؟ هذا أمر خطير للغاية. دخلنا عصر التشكك والاشتباه المنتشر على نطاق واسع".
خلال الأشهر الأولى من حالة الطوارئ تسببت عمليات البحث والتفتيش في المساجد، التي كانت عنيفة أحيانا، في حدوث فزع بين كثير من المسلمين لأنه يبدو عليها أنها عمليات عشوائية، وفقا لمحمد هنيش، ممثل عدة مساجد في إحدى ضواحي باريس الشمالية. يقول هنيش: "يتساءل المسلمون الذين اعتادوا على ارتياد المساجد: أنا أرتاد مسجدا متطرفا؟ لماذا إذن لم ألاحظ أي شيء؟".
ويتحدث عن الصدمة عندما تم إغلاق أحد المساجد التي يشرف عليها، في ستينز، لأن إرهابيا معروفا فابيان كلاين، كان قد حضر إلى المسجد ولأن الإمام طلب ذات مرة خلال خطبة كان يلقيها "الدعاء لإخواننا في سورية"، وفقا لـ"الملاحظات البيضاء" المستخدمة لتبرير الإغلاق.
أجاب هنيش في المحكمة بأن الإمام لم يكن يعرف كلاين وأن إشاراته بالتحدث عن سورية كانت إشارة إلى المدنيين في البلد الذي مزقته الحرب، وليس لمقاتلي "داعش". لكن السلطات لم تنظر في أمر إعادة فتح المسجد إلا بعدما عرض عليهم إقالة الإمام.
وعرض هنيش أيضا تركيب كاميرات فيديو لمراقبة قاعة الصلاة حيث يكون ذلك رادعا للجهاديين المحتملين يمنع حضورهم إلى المسجد. وتعهد الأئمة الجدد أيضا بتسليط الضوء على خطر التطرف. ومن المتوقع إعادة فتح المسجد هذا الشهر.
يقول هنيش: "يقولون إنهم يتعقبون الإرهابيين، لكن يبدو الأمر وكأن كل شخص مشتبه به يعتبر مذنبا إلى أن يتمكن من إثبات خلاف ذلك".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES