Author

تغير المجتمعات سنة كونية

|

أنهى الأمر السامي بتطبيق أحكام نظام المرور على الذكور والإناث مسلسل الجدل الواسع والطويل الذي استغرق سنوات، بل عقودا، وأنتج فتاوى كثيرة ومتناقضة، وبعضها مثير للتندر والفكاهة بين الناس في المجتمع السعودي والمجتمعات المجاورة. لا أحد ينكر أن بعض الفتاوى جاء في مراحل زمنية، تتطلب الظروف السائدة فيها إحداث تغييرات تدريجية للمحافظة على قيم المجتمع وهويته، لكن بعضها جاء بعيدا عن المنطق، رغم زعمه الاستناد إلى دراسات تبين – فيما بعد - أنها غير موجودة، مثل فتوى تأثير القيادة في مبايض المرأة، أو تلك التي تدعي أنها قد تمس عذرية المرأة. ولم يقتصر أمر الفتاوى على قيادة المرأة للسيارة، بل شمل نواحي حياتية أخرى. وحول هذا الموضوع لا أنسى ما حدث في أحد مقررات البحث العلمي التي كنت أقوم بتدريسها قبل عشر سنوات، حين اقترح أحد الطلاب إجراء دراسة آراء الطلاب حول قيادة المرأة للسيارة، فواجهت الفكرة معارضة شديدة من الطلاب الآخرين، بحجة وجود فتوى تحرم قيادة المرأة للسيارة، ما اضطر إلى تغيير موضوع الدراسة.
المهم هنا أن نستنتج العبرة ونستفيد منها في مقبل الأيام عند النظر إلى قضايا مجتمعية أخرى، فلا بد أن نؤمن بأن التغير سنة الحياة، وأن المجتمعات وشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافة وأسلوب حياتها ومعيشتها في تغير مستمر، لو توقف التغير لتوقفت الحياة، وهلك الناس. فعلى سبيل المثال، كان التواصل بين الناس يعتمد - في الماضي - على إرسال "الرسل" ثم الحمام الزاجل، فالبريد، ثم البرقيات، والهاتف والفاكس، ثم البريد الإلكتروني، وبعد ذلك تعددت الأساليب باستخدام الهواتف الذكية. ومن مظاهر التغير أن هناك من كان يصر على حرمة التصوير الفوتوغرافي في الماضي، وأصبح الآن يسابق الآخرين بالتقاط صور "السيلفي" مع المشايخ والمشاهير. الحديث حول مواجهة التغيير يشمل الأعاصير الفكرية التي واكبت ظهور البث الفضائي من خلال الأطباق "الدش"، واستخدام الكاميرا المدمجة بالهاتف الجوال، وعمل "الكاشيرات"، وقبلها مدارس البنات، وغيرها. وللدلالة على حتمية التغيير ما تمر به الأنظمة من تحديث وتطوير لمواكبة التغيرات التي تشهدها المجتمعات.
لا جدال في أن مواجهة رياح التغير والتغيير تعطل الحياة وتكبد المجتمع خسائر كبيرة، كما هو الحال في منع قيادة المرأة للسيارة، الذي كبد المجتمع خسائر تقدر بمليارات الريالات، فقرار السماح بقيادة المرأة للسيارة سيوفر كثيرا على الأسر التي أرهقت ميزانياتها أجور النقل، وفي الوقت نفسه سيمكن بعض الأسر من استقدام سائقات للعمل لدى أسرهم، وسيمنح الناس خيارات واسعة هي – في الأساس – حقوق مشروعة، وربما يؤدي إلى خفض معدلات البطالة المرتفعة بين النساء، وتقليص حجم العمالة الوافدة.
من الضروري أن نستخلص العبرة ونتعظ بما يواجه أصحاب الفتاوى "المتطرفة" والمواقف المتشددة، وأن ننظر إلى الأمور بعقلانية وحكمة، فبدلا من مواجهة التغيير وتعطيل مصالح خلق الله، ينبغي النظر في إمكانية تطويع التغيير وتكييفه بما يتناسب مع قيم المجتمع وضوابطه الدينية بدلا من الرفض الكامل، فالعالم ينكمش والمسافات تقصر بين المجتمعات والثقافات، فاحترام الآخر لم يعد ترفا أو مظهرا حضاريا، بل أصبح من مقومات البقاء في عالم اليوم. ومن الأمانة ألا نواجه التغيير بحجة أن هناك قضايا أهم من "قيادة المرأة للسيارة" كالبطالة مثلا، فلا يمكن تعطيل أمور معينة بسبب وجود خلل في مسائل أخرى، فالحياة لا ينبغي أن تتوقف عند أمر معين.
في الختام، لست من دعاة التغيير السريع الذي يحدث الفوضى ويخلخل قيم المجتمع، لكنني أؤمن بحتمية التغير وضرورة التعايش مع الثقافات الأخرى وليس بمعزل عنها، فالمطلوب هو التغير التدريجي الذي يحافظ على هوية المجتمع، لأن التغير سنة كونية لا يمكن إنكارها.

إنشرها