FINANCIAL TIMES

الاقتصاد الأمريكي يبقى عالقا في مأزق التضخم البطيء

الاقتصاد الأمريكي يبقى عالقا في مأزق التضخم البطيء

لا يشعر رون بول، على الأقل، بأي أسف. عضو الكونجرس السابق عن ولاية تكساس هو أحد الأصوات الأبرز ما بين الأمريكيين الذين كانوا منذ وقت طويل ينظرون بارتياب عميق إلى البنك المركزي الأمريكي وسلطته في مجال طباعة الأوراق النقدية. عندما رشح ن فسه لمنصب الرئيس في عام 2012، هاجم رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، بن بيرنانكي، لتخفيضه قيمة العملة والمخاطرة بطفرة تضخمية من خلال ضخ تريليونات الدولارات في النظام المالي. يقول بول الذي لوح ذات مرة بقطعة نقود فضية بينما كان يلقي محاضرة أمام رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق في كابيتول هيل: "ليست لدينا أسعار في السوق الاستهلاكية آخذة في الارتفاع كما كانت الحال في السبعينيات، لكن ينبغي ألا نفاجأ إن حدث ذلك".
في أماكن أخرى، ليس من السهل الوصول إلى حالة اليقين. ويشعر مسؤولو البنك المركزي الأمريكي، ونظراؤهم في جميع أنحاء العالم، بالحيرة حقا بسبب قراءات التضخم المنخفضة الأخيرة.
على الرغم من الانتعاش الذي هو الآن ثالث أطول انتعاش قياسي تجد أمريكا نفسها عالقة ليس فيما يشبه طراز السبعينيات، حين كان التصاعد التضخمي بأرقام من خانتين، وإنما هي عالقة في مأزق التضخم البطيء. قفز نمو الأسعار في آب (أغسطس)، مدفوعا بأسعار الطاقة والمساكن، ومع ذلك لا يزال المستثمرون متشككين في أن التضخم سيكون قويا بما يكفي ليستحق أكثر من قرارين برفع أسعار الفائدة قبل نهاية عام 2018.
تسببت التوقعات غير المؤكدة بإرباك صناع السياسة في الاحتياطي الفيدرالي تماما في الوقت الذي يستعد فيه البنك المركزي لإجراء تغييرات في القيادة خلال عام الجديد. وقد حاول الرئيس دونالد ترمب، الذي سيتخذ قريبا قرارا بشأن الشخص الذي سيحل محل الرئيسة الحالية للمصرف، جانيت ييلين، أن يكون مع جانبي السؤال – هاجم أسعار الفائدة المنخفضة عام الماضي خلال فترة الانتخابات، لكنه رحب بها هذا العام.
يقول جون فاوست، وهو مستشار سابق لييلين في الاحتياطي الفيدرالي ويعمل الآن في جامعة جونز هوبكنز: "إنه لغز ويثير تساؤلا حقيقيا يتمثل في الخطوة التي ينبغي للاحتياطي الفيدرالي اتخاذها الآن. كنت أعتقد أننا سنشهد مزيدا من ضغوط التضخم بحلول هذا الوقت". ويضيف: "في وقت نجد فيه أنفسنا أمام صورة اقتصادية مربكة، لا نعلم من الذي سيحكم على تلك الصورة في غضون أشهر قليلة. هذا الغموض الإضافي ليس بالأمر الجيد".
بعد رفع أسعار الفائدة مرتين هذا عام في مواجهة هذا التضخم الكئيب، حافظ الاحتياطي الفيدرالي على النطاق المستهدف لأسعاره الرئيسية بنسبة تراوح بين 1 إلى 1.25 في المائة يوم الأربعاء، حتى وهو يعلن عن التفكيك التدريجي لبرنامج التسهيل الكمي الخاص به. ومن المرجح أن تترك ييلين المجال مفتوحا أمام توقعات حدوث ارتفاع آخر في أسعار الفائدة في كانون الأول (ديسمبر)، في الوقت الذي تعول فيه على أن يعمل تراجع الفجوة في القدرة الاحتياطية في الاقتصاد على رفع الأسعار وسط انتعاش في النمو العالمي.
مع ذلك، لا يزال حلم تحقيق هدف التضخم الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 2 في المائة يبدو أمرا بعيد المنال – مع استثناء تكاليف الطاقة والغذاء، لم تحقق تلك النسبة على مدى نصف عقد من الزمن. وقد مضى ربع قرن منذ أن وصل مقياس التضخم المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي - نفقات الاستهلاك الشخصي باستثناء الطعام والطاقة – إلى مستوى أعلى من المستوى الذي لا يزال هادئا نسبيا، الذي يبلغ 3 في المائة. وقد بلغت الزيادة 1.4 في المائة فقط في عام المنتهي في تموز (يوليو). في الوقت نفسه، لا يزال نمو الأجور أقل بكثير من الوتيرة التي كان يحظى بها قبل الأزمة بنسبة 2.5 في المائة فقط.

أدوات الركود القادم

في عام 2015 رسمت ييلين خريطة طريق واضحة نحو ارتفاع في تضخم السلع والخدمات، عارضة الحجة التقليدية لدى مسؤولي البنوك المركزية التي تفيد بأن تراجع القدرة الاحتياطية من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى إذكاء ضغوط الأسعار والأجور. المشكلة هي أنه حتى مع نمو الاقتصاد بشكل مطرد وانخفاض معدل البطالة إلى 4.4 في المائة، قصر التضخم هذا عام عن المستويات التي يشير إليها أنموذجها.
جزء من المشكلة يكمن في أن الارتباط بين انخفاض معدلات البطالة وارتفاع نمو الأسعار المتجسد فيما يسمى منحنى فيليبس كان يبدو هشا منذ عقود. ويشتبه بعض المسؤولين في قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تحمل سوق عمل أقوى حتى من قبل بدون الشعور بالقلق إزاء نمو الأسعار المفرط.
على مستوى واحد، يبدو أن تباطؤ التضخم جنبا إلى جنب مع النمو الذي لا بأس به لا يمكن اعتباره بأي حال أمرا سيئا - كان يمكن لمسؤولي البنوك المركزية في السبعينيات أن ينظروا إلى الأنموذج الحالي بشيء من الحسد. لكن إذا وصل التضخم إلى مستويات منخفضة دون الحد، فإنه سيجعل الاقتصاد قريبا جدا (بشكل غير مريح) من الانكماش ويمكن أن يضر بصدقية مؤسسة هدفها الوصول إلى مستوى تضخم نسبته 2 في المائة. وأسعار الفائدة المنخفضة وانخفاض معدل التضخم لا يبقيان الكثير من القدرة لدى البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة عندما يصاب الاقتصاد بحالة الركود التالية.
ربما يدفع التضخم الضعيف أيضا البنك المركزي إلى إبقاء السياسة النقدية فضفاضة فوق الحد بحيث تتسبب بشكل غير مقصود في إذكاء دورة من الطفرة والانهيار - وهو أمر اتهم الاحتياطي الفيدرالي به مرارا وتكرارا خلال العقود الأخيرة. وهذا القلق تأكد مجددا بفضل الارتفاع الكبير في تقييمات الأصول. يقول كلاوديو بوريو، رئيس القسم النقدي والاقتصادي في بنك التسويات الدولية: "الخطر يكمن في أنه سينتهي بك الحال بوجود أسعار فائدة منخفضة دون الحد، مقارنة بما يتناسب مع الاستقرار المالي والاقتصادي الكلي. إن لم يحدث التضخم سيكون من الصعب تحريك أسعار الفائدة إلى مستوى أعلى بسرعة مناسبة من أجل معالجة هذه القضية".
عملت سلسلة من الأرقام الضعيفة امتدت لفترة خمسة أشهر هذا العام على دفع بعض صناع السياسة في الاحتياطي الفيدرالي، بمن فيهم بيل دادلي من الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وروب كابلان من الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، للبدء في طرح أسئلة عميقة. هل تعمل العولمة والتطورات التكنولوجية على تقييد التضخم في وقت يعمل فيه الارتفاع الدوري بدلا من ذلك على دفعه إلى الأعلى؟
قال كابلان في مقابلة مع "فاينانشيال تايمز" الشهر الماضي: " هاتان القوتان متضاربتان. القوى الدورية نحن نفهمها من الناحية التاريخية، لكن القوى الهيكلية جديدة نوعا ما، ولا سيما التعطيل الذي تسببه التكنولوجيا".
ويستشهد بعض صناع السياسة بالسهولة المتزايدة التي من خلالها يتمكن المتسوقون من مقارنة الأسعار على الإنترنت وتأثير تلك التغييرات على الولاء للعلامة التجارية وقوة التسعير. وتدخل أمازون قطاع متاجر البقالة من خلال شركة هول فودز، في الوقت الذي يتعرض فيه القطاع الفندقي لحالة من الانقلاب من قبل شركة إيربنب. ويرى ريك رايدر، كبير الإداريين الاستثماريين للدخل الثابت في شركة بلاك روك، أن هناك المزيد من التعطيل المقبل، في الوقت الذي يقدم فيه الذكاء الاصطناعي وعودا بالمزيد من التغييرات الواسعة في طبيعة بعض الصناعات.
وتبين بحوث أجرتها شركة أدوبي للتحليلات ما تفعله المنافسة عبر الإنترنت في بعض المجالات والقطاعات. فقد انخفضت أسعار الأثاث وغرف النوم على الإنترنت بنسبة 8.3 في المائة على مدى العامين الماضيين، بينما انخفضت الفئة المماثلة في مؤشر الأسعار الاستهلاكية، التي تشمل المبيعات غير الإلكترونية، بمعدل أقل من نصف تلك النسبة. وانخفضت أسعار السلع الرياضية على الإنترنت بنسبة 10 في المائة، مقارنة بـ 3.7 في المائة في مؤشر الأسعار الاستهلاكية. أما أسعار الملابس على الإنترنت فقد انخفضت بنسبة 6.5 في المائة في الفترة نفسها، مقارنة بانخفاض نسبته 4.1 في المائة على المستوى غير الإلكتروني.
انكماش أسعار السلع ليس أمرا جديدا في الولايات المتحدة. يقول بيت كليناو، من جامعة ستانفورد، إن المقارنات بين سلال الأسعار على الإنترنت وخارج نطاق الإنترنت يمكن أن تكون مخادعة بسبب تركيباتها المختلفة. وفي حين يجادل بعض مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي بأن التكنولوجيا تعمل على تقويض قدرة الشركات على رفع الأسعار، وجد محللون في جولدمان ساكس أخيرا أن هناك زيادة في قوة تسعير الشركات على مدى السنوات الـ 20 الماضية، بما ينسجم مع الارتفاع في هوامش الأرباح وتركيز الصناعة.
ويشكك خبراء الاقتصاد في جولدمان أيضا في الحجج التي تفيد بأن التجارة الإلكترونية، التي تمثل نحو 8 في المائة من مبيعات التجزئة، تمارس تأثيرا ملموسا على التضخم الأوسع. آثار التنافس الإلكتروني على تسعير السلع من قبل متاجر التجزئة التقليدية ربما لا تكون أكبر من الآثار التي شهدناها خلال فترة ظهور سلاسل المتاجر الضخمة مثل وول مارت.
وكان بعض المحللين الآخرين ينظرون عن كثب في سوق العمل، بحيث يربطون نمو الأجور الضئيل بقراءات التضخم المثقلة. تقول كاترين مان، كبيرة خبراء الاقتصاد لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مجموعة الدول الغنية التي يوجد مقرها في باريس، إن ارتفاع انعدام الأمن الوظيفي وانخفاض إمكانية تنقل اليد العالمة في الولايات المتحدة ربما يقيد الدعوات إلى رفع الأجور. وتضيف: "العمال والمنتجون ليسوا متأكدين من أن السوق ستصبح قوية فعليا بما يكفي لدعم مطالب ارتفاع الأجور والأسعار".
في الوقت الذي كان فيه تضخم أسعار السلع أمرا سلبيا في معظم الفترة التي سادت بعد الأزمة، تسلط مان الضوء على الضعف في تضخم أسعار الخدمات والتراجع من 3 في المائة قبل الازمة إلى نسبة قريبة من 2 في المائة الآن. وتتفحص أيضا الدور المتزايد لوظائف الخدمات الذي تضطلع به بشكل غير متناسب النساء اللواتي يتقاضين أجورا أقل من أجور الرجال. وتقول: "من الصعب حقا رفع التضخم إذا كانت الأجور غير آخذة في الارتفاع".

الارتباك الرسمي

في الاحتياطي الفيدرالي يعاني بعض المسؤولين من أجل معرفة السبب في تدخل العوامل الهيكلية الكبرى لسحق أرقام التضخم. بدلا من ذلك، أشار الاحتياطي الفيدرالي إلى أن النتائج الكئيبة لهذا عام مدفوعة بسلسلة من العوائق العرضية التي تحدث لمرة واحدة، بما فيها انخفاض في أسعار البيانات اللاسلكية.
إن كانوا على حق، كان يمكن للقفزة في التضخم التي حدثت الشهر الماضي أن تبشر بتحقيق المزيد من المكاسب - مع رفع إضافي محتمل لقيمة الدولار الذي انخفض أخيرا. مع ذلك، ينقسم واضعو أسعار الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي إزاء تلك الآفاق، وقد انحسرت ثقة السوق في توقعات الاحتياطي الفيدرالي. يقول تشارلز بلوسر، وهو رئيس سابق للاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا: "أعتقد أن خبراء الاقتصاد يحتاجون للعمل بجد واجتهاد أكبر لتفهم عملية التضخم".
لا تقتصر حالات النقص بأي حال من الأحوال على الولايات المتحدة. في منطقة اليورو لم يتم إلى الآن مطابقة الانخفاض الحاد في معدل البطالة في كل أنحاء المنطقة مع ارتفاع قوي في الأجور - والذي يخشى المسؤولون أن يفشل التضخم من دونه في تحقيق الهدف المقرر وهو الوصول إلى مستوى أقل من 2 في المائة بقليل.
قال ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، هذا العام إن التفاوض "الآخذ في التراجع" للأجور الاسمية والذي يرتبط بأسعار الفائدة المنخفضة ربما يعمل على تقييد الأسعار. وكثير من الوظائف الجديدة يقع ضمن نطاق العمالة المؤقتة أو الدوام الجزئي، الأمر الذي ربما يعمل على إبطاء نمو الأجور الاسمية أيضا. في الوقت نفسه، من المعروف تماما معاناة المسؤولين في بنك اليابان في تحقيق أهداف التضخم.
في الولايات المتحدة، التي تتميز سياستها النقدية بتأثير عالمي، تتعقد التساؤلات المطروحة حول التضخم بسبب الغموض المتعلق بالشخص الذي سيتولى رئاسة الاحتياطي الفيدرالي اعتبارا من شباط (فبراير). ستتاح لترمب فرصة تعيين ما يصل إلى خمسة أعضاء جدد في مجلس الاحتياطي الفيدرالي مع حلول عام المقبل، لكن محاولة التنبؤ بهؤلاء الأشخاص تبدو غير مجدية نظرا للطبيعة المتقلبة التي تتسم بها قرارات الرئيس المتعلق بالتعيينات.
يجادل بعض المحللين بأن الأمر قد ينتهي بأن ينحرف البنك المركزي إلى مسار متشدد - الأمر الذي من شأنه أن يسبب القلق لخبراء الاقتصاد الذين تتركز أعينهم على التضخم المنخفض. قد لا يعيد ترمب تعيين ييلين التي تمثل الطرف الحمائمي في طيف السياسة النقدية. وقد أبدى عدد من المرشحين البدائل لمنصب رئيس المجلس علامات على المزيد من الميول نحو التشدد - من بينهم كيفن وارش وجون تيلر، الأستاذان في جامعة ستانفورد.
من ناحية أخرى أطلق ترمب على نفسه "شخص يفضل أسعار الفائدة المنخفضة" وهناك سوابق لرؤساء يعتمدون على قيادات المصرف الفيدرالي للحفاظ على السياسة النقدية فضفاضة - حتى عندما يهدد التضخم بالبدء في الارتفاع. مثلا، ضغط ريتشارد نيكسون على آرثر بيرنز لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة في أوائل السبعينيات. وفي حين أن اندفاع التضخم ربما يبدو أمرا غير مرجح في الوقت الحاضر، إلا أن فهم الاقتصاديين للأمور التي تحرك التضخم ضعيف إلى درجة أنه بعيد تماما عن أن يكون اندفاع التضخم مستحيلا – مثلما يواصل تحذيرنا المراقبون بمن فيهم السيناتور بول.
إذا أخفق التضخم في تأكيد نفسه، فإن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية سيجدون أن من الصعب عليهم الموازنة بين الحاجة إلى أسعار فائدة منخفضة في مقابل الآثار الجانبية الخطرة التي ستولدها السياسة النقدية المتساهلة في الأسواق. يقول فاوست: "إذا واصل البنك المركزي الضغط، فإنه يستطيع أن يدفع التضخم إلى أعلى – لكن السؤال هو ما إذا كان نوع آخر من الإفراط سينفجر أولا".
يبدو أن من المتوقع أن يستمر لغز التضخم المنخفض في إثارة الحيرة والارتباك في السياسة النقدية، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في مختلف أنحاء العالم.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES