FINANCIAL TIMES

التبلّد لا يناسب وضع ألمانيا الراهن في العالم

التبلّد لا يناسب وضع ألمانيا الراهن في العالم

لا داعي لأن تكون الانتخابات مُثيرة حتى تكون مهمة. سيذهب الألمان قريبا إلى صناديق الاقتراع. بقية العالم يشعرون بالملل. الذين يتعاملون مع السياسة باعتبارها صاخبة، على طريقة المشجعين، يرتكبون خطأ كبيرا.
يمكن القول اليوم، إن أوروبا في وضع أفضل مما كانت عليه لبعض الوقت، لكن لم يعُد بإمكانها أن تفترض ازدهارها وأمنها. بيد أن الملل هو المظهر الطاغي على أقوى دولة في القارة.
بالنسبة للاجئ مؤقت من تقلصات خروج بريطانيا، فإن المناظرة المُتلفزة هذا الأسبوع بين المستشارة أنجيلا ميركل ومارتن شولتز، منافسها من الحزب الديموقراطي الاشتراكي، كانت عديمة الحيوية على نحو صارخ.
الصدمة كانت لتكون أكبر بالنسبة للذين هم في واشنطن من المعتادين على تمثيل مسرحي يُطلقه يوميا الهاتف الذكي لدونالد ترمب.
أين كانت الإساءة الشخصية والحقائق المخترَعة والأكاذيب العارضة؟ ألم ير أي من المرشحين ترمب يُهاجم هيلاري كلينتون؟ أو مواجهة إيمانويل ماكرون في فرنسا للذم الكاره للأجانب من مارين لوبن؟
ألم يسمعا السياسيين البريطانيين وهم يكذبون بشأن الثروات الواسعة التي ستتدفق بفعل خروج بريطانيا؟ على الرغم من محاولاتهما القوية، لم تتمكن السيدة ميركل وشولتز من زيادة الحماس.
ما يفصلهما سياسيا هو أخدود طبيعي وليس واد ضيق عميق من الأيديولوجيا.
هذا لا يُضيف أي شيء لنتيجة الحماسة التي توقعتها استطلاعات الرأي بأن ميركل ستعود لفترة ولاية رابعة - ربما على رأس تحالف كبير آخر مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي لشولتز.
لم تكُن ألمانيا في مأمن من الشعبوية التي تُزعزع استقرار النخب السياسية في كل أنحاء أوروبا، فحزب البديل لألمانيا القومي يبذل كل ما في وسعه لإثارة الخوف من الإسلام في أعقاب أزمة المهاجرين في عام 2015، لكن يبدو من غير المرجح أن يحصل على أكثر من 10 في المائة من الأصوات.
التوافق على أساس الالتقاء في منتصف الطريق يُسيء إلى كثير من الغرباء. الناخبون، كما نسمع النقاد يقولون، يُحرَمون من "اختيار" واضح.
ألم يكُن الدستور ما بعد الحرب، الذي وضعه المنتصرون عام 1945، يهدف إلى تعزيز المصالحة؟
على أية حال، هناك تفسير آخر لغياب الغضب. ألمانيا مزدهرة ومستقرة في قارة كانت تبدو أخيرا أنها بعيدة تماما عن الاستقرار والازدهار. أزمات اليورو والهجرة تم احتواؤها. يُمكننا القول إن الألمان قد اختاروا بالفعل - إنهم مقتنعون بالأشياء إلى حد كبير كما هي.
الذين يحبون الضوضاء بحد ذاتها ينبغي أن ينظروا إلى بريطانيا. هناك البدائل السياسية يُمثّلها الآن حزب حاكم مهووس بالمسعى المدمر لسحب بريطانيا من قارتها، وقائد معارضة يساري متشدد مملوء بالحنين إلى الاشتراكية في عهد الاتحاد السوفيتي.
الاختيار بين رئيسة الوزراء من حزب المحافظين تيريزا ماي وجيرمي كوربن زعيم حزب العمال، ليس خيارا سيرغب فيه أي شخص آخر. ما يُميّز ميركل ليس طول فترة ولايتها (هي نقضت وعدها بعدم ارتكاب خطأ هيلموت كول بالترشح لفترة ولاية رابعة)، وإنما دعمها الواضح للنظام الدولي المنفتح الليبرالي.
عندما ذهب آخرون إلى واشنطن للإشادة بترمب بعد فوزه بالانتخابات، كانت ميركل مُصرّة بشدة على أنها ستتعامل مع الرئيس الجديد بشروطها الخاصة.
دعمها للعلاقات بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة لا جدال فيه، لكنه ليس دون شروط.
التهديدات تتحدث عن نفسها روسيا برئاسة فلاديمير بوتين تُريد إعادة صياغة الحدود الإقليمية لأوروبا. ترمب في الوقت نفسه هو حليف لا يُمكن الاعتماد عليه وسريع الغضب.
بريطانيا خرجت من مجال السياسة الخارجية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يُثبت نفسه بعد.
السياسة الممزقة في إيطاليا تتعرض للضغط من ارتفاع تدفقات المهاجرين من شمال إفريقيا. بولندا والمجر تحصدان شيكات ضخمة من تمويل الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تتخليان فيه عن قيمه الليبرالية.
في الوقت الراهن فإن ألمانيا المستقرة هو ما حصلت عليه القارة والاتحاد في صورة دولة مستعدة للدفاع عن قواعد ومؤسسات النظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
قومية ترمب العدائية وانفصال بريطانيا عن أوروبا مزّق نسيج الغرب. المستشارة الألمانية لا تستسلم. التزاماتها بالحرية، وسيادة القانون والمؤسسات الديموقراطية متأصّلة في تاريخها الشخصي طوال 35 عاماً قضتها في الشرق الشيوعي.
كما يُشير الصحافي ستيفان كورنيليوس في سيرة حياة ممتازة، السيدة ميركل تعرف أن الديموقراطية الليبرالية هي التي أكّدت أن عقود السلام والازدهار في أوروبا، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليست مجرد "قانون من قوانين الطبيعة".
المستشارة ليست قدّيسة. هناك مصلحة ذاتية وطنية على المحك. كانت ألمانيا فائزة كبيرة من النظام القائم على القواعد الدولية ومن العولمة الاقتصادية.
الأعمال والصادرات الألمانية ازدهرت لأن الحكومات المتعاقبة كانت تحت حماية مظلة الأمن الأمريكية، وتجنّب المسؤوليات الدولية خارج أوروبا. يبدو أن ميركل تفهم أن أيام الركوب المجاني قد انتهت، فهي تضع الآن إعادة بناء العلاقات الفرنسية-الألمانية بمثابة أولوية، وزادت من مخصصات الدفاع ضمن الموازنة.
على أنه لا يزال هناك تردد مقصود، فهي تتحدث عن مثل هذه الأشياء للناخبين بأكثر المصطلحات غموضاً. الظروف - استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم وغزو شرق أوكرانيا، وتدفق اللاجئين من الحرب الأهلية السورية – من العوامل التي أجبرت المستشارة على التصرّف، إلا أن القيادة على الساحة العالمية ليست شيئا يسعى إليه أو يرحّب به الناخبون.
كلما ابتعدنا عن برلين أكثر، يصبح الناخبون أكثر ترددا بالاعتراف بأن ألمانيا لا تستطيع الاختباء بعد الآن خلف تاريخها.
الملل جيد، خاصة عندما يحل محل الإفك، لكنه ليس كافيا. ما كان مفقودا في الحملة هو نقاش جاد لدور دولي لم يُعد بإمكان ألمانيا تجنّبه.

الكاتب في الوقت الحاضر هو زميل كرسي ريتشارد فون فايتسيكر، في أكاديمية روبرت بوش في برلين
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES