FINANCIAL TIMES

ملفات حرب الأمس الباردة تحت مجهر اليوم

ملفات حرب الأمس الباردة تحت مجهر اليوم

ملفات حرب الأمس الباردة تحت مجهر اليوم

ملفات حرب الأمس الباردة تحت مجهر اليوم

ملفات حرب الأمس الباردة تحت مجهر اليوم

عندما سئل أبيه سيييس، وهو منظر سياسي بارز للثورة الفرنسية، عما فعله خلال فترة الإرهاب 1794-1793، أجاب: "بقيتُ على قيد الحياة".
يعرف كثير من الناس الذين عاشوا في زمن الحرب الباردة ما كان يقصده، ذلك المنظر الفرنسي، على الرغم من أنه عاش قبل 150 عاماً من تلك الحقبة.
على مدى أربعة عقود، كان خطر الحرب النووية بشكل مقصود أو حادث، معلقا فوق قسم كبير من البشر، خاصة سكان الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وحلفاء كل منهما. وبحلول منتصف السبعينيات، كانت كل قوة عظمى تمتلك عشرات الآلاف من الأسلحة النووية، وكثير منها مزودة برؤوس حربية متعددة.
وكان بإمكان واشنطن أو موسكو أن تدمر الحضارة في ضربة واحدة. وكان هناك أيضا خطر نشوب حرب تقليدية في أوروبا بين حلف الناتو وحلف وارسو.
في هذه الحقبة، كانت الحلقة الأكثر خطورة هي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، ولكن منذ أواخر الأربعينيات وحتى أوائل الستينيات، كانت هناك توترات متكررة حول مدينة برلين المنقسمة إلى قسمين.
في أوائل الثمانينيات، ومع قيام القوات السوفياتية باحتلال أفغانستان ووصول مناهض الشيوعية رونالد ريجان إلى البيت الأبيض، سقطت العلاقات الأمريكية - السوفياتية إلى عمق يصفه أود أرني ويستاد في كتابه "الحرب الباردة: تاريخ عالمي" على أنه كان "خطيرا للغاية".
وفي ضوء المناخ الدولي غير المستقر اليوم، التنهد الجماعي الذي انبعث حين وصلت الحرب الباردة بشكل غير متوقع إلى نهاية سريعة في 1989-1991 يمكن أن يبدو أنه سابق لأوانه.
وكلما طال وجود الرئيس فلاديمير بوتين سيدا على الكرملين، انخفضت درجة حرارة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث وصلت العلاقة الآن إلى أبرد درجة لها منذ أكثر من 30 عاما.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو التهديد باستخدام الأسلحة النووية في مواجهة كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة. البحث بواسطة "جوجل" عن عبارة "الحرب الباردة الجديدة" يجلب ربع مليون نتيجة.
التاريخ لا يكرر نفسه بالضبط، إلا أنه على مدى ربع القرن الماضي كان هناك كثير من التغيرات الجيوسياسية والتكنولوجية والاقتصادية تحول دون أن تكون الظروف الحالية قابلة لإجراء مقارنة وثيقة بالتغيرات التي كانت عام 1948، عندما حاصر جوزيف ستالين برلين، أو عام 1973، عندما وضع ريتشارد نيكسون القوات الأمريكية في حالة تأهب نووية خلال حرب يوم الغفران، أو عام 1983، عندما أثارت مناورات إيبل آرتشر في حلف الناتو شكوكا سوفياتية بأن التحالف الغربي كان يعد لهجوم مفاجئ.
ومع ذلك، فإن بعض ميراث الحرب الباردة لا يزال معنا إلى حد كبير للغاية.
وتكمن أسباب المواجهة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الجارية الآن، في عدم التوصل إلى تسوية شاملة بعد الحرب الكورية 1950-1953.
تقسيم شبه الجزيرة والقبضة المُحكمة على السلطة من قبل الدكتاتورية الشيوعية الوراثية في الشمال يجعل خط الجبهة الكورية، كما تكتب بريدجيت كيندال في كتابها "الحرب الباردة: تاريخ شفهي جديد للحياة بين الشرق والغرب"، بمثابة "أخطر نقطة اشتعال محتملة على وجه الأرض".
وبالمثل، كما يلاحظ رودريك بريثوايت في كتابه "آرمجدون والخوف المَرَضي: المواجهة النووية"، التوترات الأمريكية - الروسية اليوم تدين إلى حد كبير للاستياء الذي تراكم في موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتصور حول انتصار الولايات المتحدة المتعجرفة. يكتب بريثويت "الخرافة القائلة إن بلدا عظيما تعرض للدمار بسبب مزيج قاتل من الأعداء الأجانب السريين والخونة المحليين الذين جندوهم... بقيت موجودة، وأصبحت لها جذور عميقة وازدهرت في روسيا بوتين".
وهذا يذكرنا بخرافة "الطعنة في الظهر" التي لفقها النازيون والمحافظون المتطرفون بعد عام 1918 لإلصاق هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى بالديمقراطيين واليهود الخونة.
جميع الكتب الثلاثة قيد الاستعراض غنية بالتفاصيل المستمدة من البحوث الأرشيفية والمقابلات مع السياسيين والجنود والعلماء وغيرهم ممن عاشوا خلال الحرب الباردة. ولكل منها نقاط قوة خاصة به. وستاد، المتخصص في الصين وكذلك في الحرب الباردة، يضيف بعدا قيما من خلال الفصول المتعلقة بالبلدان الآسيوية وأمريكا اللاتينية؛ في حين أن بريثويت، وهو سفير سابق للمملكة المتحدة لدى موسكو، جيد بشكل خاص حول سياسة الأسلحة النووية السوفياتية.
أما كندال، وهي مراسلة سابقة في هيئة الإذاعة البريطانية في موسكو، فهي تقدم مقدمات موزونة إلى الحلقات التاريخية الثلاثين التي ينقسم فيها كتابها إلى فصول.
الدراسة الأكثر طموحا، وهي رائعة وبانورامية في نطاقها، هي كتاب "الحرب الباردة" لويستاد.
ويستاد، المؤرخ النرويجي المولد الذي يُدَرس في جامعة هارفارد، يتقصى جذور نضال القوى العظمى إلى حقبة ما قبل عام 1914، عندما كانت روسيا والولايات المتحدة قوتين قاريتين، وكان هناك انقسام قاتل على اليسار الأوروبي بين الاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين الثوريين.
أسهم هذا الانقسام في استيلاء البلاشفة على روسيا عام 1917، وكان يعني أن البوادر الأولى لحرب باردة كانت موجودة قبل عام 1945، متخفية على الرغم من أنها كانت بسبب الحاجة إلى الوحدة ضد النازيين، العدو المشترك لكل طرف منهما.
ويستاد يصف الوضع بشكل جيد: "السؤال الذي كثيرا ما سئل - لماذا كانت هناك حرب باردة؟ في حين استطاعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيايتي أن تكونا حلفاء في الحرب العالمية الثانية؟
هو سؤال في غير محله. كان الاثنان حليفين عرضيين في حرب عالمية جلبها أعداؤهما المشتركون... شكل من أشكال صراعات ما بعد الحرب كان قريبا من كونه أمرا حتميا".
ويستاد يقرِّع صناع السياسة الأمريكيين في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي على عدم الإبقاء على قنوات مفتوحة للثقافة والعلوم والتجارة مع موسكو، ولكن من الصعب التفكير في أي نهج من شأنه أن يقنع ستالين المتشكك بشكل لا رجاء فيه بحسن نية الأمريكيين.
احتلت جيوش هذا الديكتاتور أوروبا الشرقية، وكان ينوي أن يجعل هذا الأمر يُحسَب حسابه.
وكما قال للقادة الشيوعيين اليوغوسلاف في نيسان (أبريل) 1945: "هذه الحرب ليست كما كانت في الماضي... كل جهة تفرض نظامها بقدر ما يمكن لجيشها الوصول إليه. لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك".
من جانبها، خلُصت الولايات المتحدة قريبا إلى أن الانتعاش الاقتصادي لألمانيا الغربية، التي احتلتها مع المملكة المتحدة وفرنسا، يتطلب الاندماج الكامل للمنطقة في أوروبا الغربية.
وكانت هذه لحظة حاسمة في انقسام الحرب الباردة في أوروبا. وردًّا على خطة مارشال الأمريكية وإصلاح العملة الألمانية الغربية التي أنشأت المارك الألماني، أطلق ستالين حصار برلين - "أول مواجهة حقيقية للحرب الباردة".
في تلك المواجهة، خرج الغرب منتصرا، ولكن كان ستالين قد حصل من قبل على ما يريد في أوروبا الشرقية، وعمل على تثبيت أنظمة شيوعية مستقلة صورياً في تلك البلدان، التي حكمت شعوبها في سنواتها الأولى بوحشية مروعة.
هنا يكمن قلب المنافسة بين الشرق والغرب. كانت دول أوروبا الشرقية غير حرة بشكل صريح. وكانت المسؤولية عن ذلك تقع على إصرار موسكو على ألا تكون مجرد جزء من مجال نفوذ سوفياتي، بل دول حزب واحد قمعية أيضا.
مع مرور الوقت، كما يلاحظ ويستاد، وضع الإصلاحيون السوفيات صلة ما بين الحرية المحلية في الكتلة الشيوعية والسلام العالمي.
ولدى حصوله على جائزة نوبل للسلام عام 1975، كتب الفيزيائي المنشق الشجاع أندريه زاخاروف خطابا - قرأته باسمه يلينا بونر، زوجته - أكد فيه أن "الدفاع عن حقوق الإنسان وحده هو الذي يضمن أساسا صلبا حقيقيا للتعاون الدولي على المدى الطويل".
وشارك في هذه الرؤية البعيدة أناتولي تشيرنيايف، كبير مستشاري السياسة الخارجية لميخائيل جورباتشوف، آخر زعيم سوفياتي، الذي أدت إصلاحاته - خلافا لنواياه الأصلية - إلى زوال دولته.
في مذكراته كتب تشيرنيايف: "ليس أمام روسيا أي خيار. يجب أن تصبح مثل الجميع. إذا حدث هذا، فإن متلازمتي ثورة أكتوبر وستالين ستختفيان من السياسة العالمية. العالم سيكون مختلفا تماما بالفعل".
باختصار، لإنهاء الحرب الباردة، كان على موسكو أن تقرر أن من مصلحتها أن تتحرر من الداخل، وأن تخفف قبضتها في الخارج.
يؤكد المحافظون الأمريكيون على أن مفتاح انتصار الحرب الباردة كان سياسة حشد الأسلحة في عهد ريجان، التي اتبعها الرئيس في مواجهة احتجاجات السلام الشامل في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، وعدم القدرة السوفياتية على مواكبة ذلك.
ويؤكد ويستاد بدلا من ذلك على قيمة تحالفات واشنطن مع أوروبا الغربية واليابان، والتفوق التكنولوجي الأمريكي، وأخيرا وليس آخرا، رغبة القادة الأمريكيين في التفاوض مع نظرائهم السوفيات.
استهان بعض القادة الأوروبيين بريجان عام 1981 باعتباره "متعصبا أحمق الفكر"، لكنه أقام علاقة رائعة مع جورباتشوف، التي خففت كثيراً من التوترات بين القوى العظمى خلال ولايته الثانية.
خلال تلك الفترة بكاملها، كان للولايات المتحدة اقتصاد أقوى من منافستها. وكان قادة الولايات المتحدة قد شعروا بصدمة حياتهم عام 1957 عندما أطلقت موسكو سبوتنيك، أول قمر اصطناعي في العالم، ولكن ويستاد يضع الأمور ضمن المنظور المناسب: "كان يغلب عليهم نسيان أن جزءا كبيرا من السكان السوفيات لا يمكنهم مشاهدة القمر الصناعي يخترق السماء، إلا من أماكنهم أثناء وقوفهم في الطوابير للحصول على الطعام المجاني، أو من مزرعتهم الجماعية المهجورة ".
بريثوايت، مؤلف كتاب "موسكو 1941"، الذي صدر عام 2006، و"أفغانتسي"، الذي صدر عام 2011، وهما كتابان رائعان عن التجربة الروسية للحرب الحديثة، هو في أعلى قمته في "آرمجدون والخوف المرضي".
لقد اختبر الاتحاد السوفياتي أول قنبلة ذرية له عام 1949، بعد أربع سنوات من هيروشيما.
وعزا صناع السياسة الأمريكيون المنزعجون هذا الاختراق إلى التجسس، وليس البراعة العلمية، ولكن بريثوايت يضع الأمور في نصابها. نجاح ستالين كان يعود إلى "العلماء من الطراز العالمي والمهندسين المبتكرين والمديرين المتفانين، والموارد غير المحدودة للعمل، وكثير منها بالقوة، وعملية التجسس الرائعة التي اكتسب من خلالها الروس معرفة البرنامج الأمريكي؛ وقائد لديه الإرادة والسلطة لدفع برنامج سريع مكلف بشكل هائل ضد الصعاب".
بحلول أوائل الستينيات، عندما يمكن لكل قوة عظمى أن تدمر الأخرى بغض النظر عن أي تدابير مضادة يتخذها أي منهما، بدا أن الحرب النووية غير منطقية نهائيا.
بريثويت يقتبس من الجنرال توماس باور، قائد القيادة الجوية الاستراتيجية الأمريكية خلال أزمة الصواريخ الكوبية، ما قاله في مناسبة سابقة: "الفكرة كلها هي قتل الأوباش! ... في نهاية الحرب إذا كان هناك اثنان من الأمريكيين وروسي واحد على قيد الحياة، فإننا نكون قد فزنا!
"أجاب محاوره:" حسناً، سيكون من الأفضل لك التأكد من أنهما رجل وامرأة".
ربط بريثوايت قصته مع حكايات مضحكة أخرى التي تلقي الضوء على قلق العصر.
وأكد إل سي ماكهيو، وهو كاتب عمود كاثوليكي في المجلات، لقرائه أنه "من المسموح أخلاقيا إطلاق النار على جيرانك، إذا حاولوا اقتحام المأوى الذي يحميك من الشتاء النووي".
بعد 20 عاما من ذلك، أكد مسؤول في البنتاجون في عهد ريجان: "إذا كان هناك ما يكفي من الجرّافات، فإن الجميع سيتمكنون من النجاة".
في نهاية المطاف، يقول بريثوايت، نهاية العالم لم تحدث قط؛ لأن السياسيين على كلا الجانبين سعوا للحفاظ على المخاطر منخفضة.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من كل التوترات، "لا يوجد دليل على أن أيا من الجانبين يعتزم شن حرب في أوروبا، سواء كانت تقليدية أو نووية".
كتاب كيندال هو أساسا مجموعة من المقابلات التي أجريت في جميع أنحاء العالم لسلسلة حديثة في راديو بي بي سي 4 حول الحرب الباردة.
وتغطي نصف فصوله الأحداث في أوروبا، مع التركيز على المعارضة والاضطرابات والإصلاح في الكتلة الشيوعية.
هنا نجد بعض المواد الجيدة. تذكر امرأة تشيكية كيف قامت هي وصديقاتها بوضع ملصقات في المدينة بعد الغزو السوفياتي لمدينة براغ عام 1968.
يقول أحد الإعلانات: "لينين استيقظ، أصيب بريجينيف بالجنون".
يتردد صدى التفكير الإنساني لدى زاخاروف في كلمات ليف بونوماريف، وهو منشق في عهد السوفيات والآن ناقد بوتين: "كيف يمكننا بناء دولة ديمقراطية دون أن نروي حقيقة القمع الوحشي [في ظل ستالين؟ توفي كثير من الملايين، ونحن من أحفاد هؤلاء الناس... لبناء الديمقراطية، علينا أن نفهم لماذا حدث ذلك، حتى لا نرتكب خطأ في المرة المقبلة. كل هذا لا يزال صحيحا اليوم - لا نزال نقول الأشياء نفسها".
بعبارة أخرى، فإن نهاية الحرب الباردة لم تجلب إجابات نهائية عن بعض المسائل الأساسية في تلك الحقبة. كيفية منع نشوب حرب نووية هي إحدى هذه المسائل.
كيفية تعزيز الحرية والديمقراطية هي مسألة أخرى، ولكن السؤال الأكبر هو كيف نضمن أن نتعلم شيئا على الأقل من ماضينا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES