Author

الأجور والبطالة والتضخم

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا

نعرف أن أسعار الفائدة خفضت إلى قريب من الصفر منذ نحو عشر سنوات وخاصة في الدول ذات الاقتصادات الأكبر وعلى رأسها أمريكا. الهدف المساعدة على خفض معدل البطالة خاصة ونمو الاقتصاد عامة، وبين الاثنين ارتباط. ومع انخفاض معدلات البطالة بدأ رفع معدلات الفائدة. طبعا رفع الفائدة يزيد من تكلفة التمويل على الناس. لكن كان متوقعا أن انخفاض البطالة سيزيد من أجور الناس، ومن ثم سيكون تضررهم من رفع الفائدة بسيطا، ما يتيح مع الوقت زيادة معدلات الفائدة لترجع إلى معدلاتها قبل عشر سنوات.
المشكلة أن الأجور لم ترتفع إلا قليلا. وهنا نشط علماء اقتصاد "وليس مجرد كتاب أو متحدثين لديهم شيء من المعرفة في الاقتصاد" كثيرون محاولين فهم وتفسير الوضع، ولماذا لم تتحسن الأجور مع خفض البطالة؟
ربما كان أسهل وأنسب مدخل لفهم المشكلة منحنى فيليبس Phillips Curve وفيلبس أحد أشهر اقتصاديي القرن الـ 20، واشتهر بأعماله حول النمو الاقتصادي، ومحددات العمل والتغيرات في الأجور والبطالة. وساهمت أعماله في فهم البطالة بصورة أوضح.
بعد دراسة متمعنة لبيانات قرن حول البطالة والأجور النقدية في بريطانيا، اكتشف فيلبس أن هناك علاقة عكسية "وليس قانونا" بين البطالة والتغير في الأجور النقدية، تجنح الأجور إلى الارتفاع حين تكون البطالة منخفضة، والعكس بالعكس.
مع ازدياد البطالة تقل ضغوط العاملين للحصول على زيادات أجرية، كما أن ارتفاع البطالة يعني ضعف الطلب على السلع، وضعف الطلب مؤشر على ضعف النمو الاقتصادي، وهذا بدوره يعني أن الأرباح متدنية، لا تغري بزيادة الأجور.
والعكس: مع ارتفاع الطلب الكلي "مجموع ما يطلبه الناس من السلع والخدمات"، فإن المنتجين يوظفون مزيدا من القوى العاملة، ليتمكنوا من زيادة الإنتاج، وزيادة الطلب على العمل، تتسبب في رفع أجور العمال، وهذا بدوره يعمل على ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهذا الرفع يتسبب في رفع أسعار المنتجات من سلع وخدمات. أي أن هناك علاقة عكسية بين التضخم والبطالة، يوضحها منحنى فيلبس.
بينت دراسات تطبيقية empirical باستخدام أدوات اقتصاد قياسي econometrics كثيرة أن منحنى فيلبس ينطبق على المدى القصير "سنوات قليلة مثلا"، وليس على الأمد البعيد. لماذا؟ باختصار، لأن الاقتصاد كالفيزياء، لكل فعل رد فعل.
الموضوع واسع، وكتبت حوله مئات البحوث والكتب.
بدأ منحنى فيلبس يفقد شيئا من قوته في السنوات الأخيرة.
لوحظ أن الأحداث في السنوات الأخيرة لا تدعم منحنى فيلبس كما كان متوقعا. تشهد عموم الدول الغربية معدلات بطالة هي الأقل خلال 40 عاما، لكن نمو الأجور فيها ضعيف.
ظهرت عدة نظريات تحاول فهم العلاقة بين الأجور والبطالة. ربما كان أهمها وجود عرض عمل كبير بسبب سهولة هجرة أوربيين من شرق أوربا إلى غربها، حيث تسمح قوانين الاتحاد الأوروبي، ما يحد من ارتفاع الأجور. سوق العمل في بلادنا المملكة العربية السعودية يعاني وضعا فيه بعض الشبه بهذا.
مما توصلت إليه دراسات في دول أوروبية غربية أن زيادة 10 في المائة في نسبة العاملين المهاجرين إلى المواطنين في المهن البسيطة المهارة تعمل على خفض الأجور 2 في المائة. ووجدت تلك الدراسات أن التأثر تقريبا معدوم في حال المهن العالية المهارة.
مما توصلت إليه تلك الدراسات أن ضعف نمو الأجور مشكلة عالمية، حتى في الدول التي لا تعاني هجرة لها وزن، وعلى رأس هذه الدول اليابان وأمريكا.
وجدت الدراسات أن أعباء إضافية على بعض الأعمال أضعفت مقدرة الشركات على زيادة الأجور. من أمثلة هذه الأعباء تعديل قوانين حكومية بهدف تحسين وضع العاملين في الشركات. من أمثلة هذه القوانين زيادة ما تدفعه الشركات "وخاصة الكبيرة" من أجور خلال فترات التدريب على رأس العمل. طبعا الزيادة في تكلفة العمل تصعب على أصحاب العمل زيادة أجور العاملين لديهم. وقد تتفاوض الحكومات مع الشركات على تخفيف ما تأخذه منها من ضرائب مقابل تحسين أوضاع العاملين في الشركات. لكن هذا الحل ربما يجر إلى زيادة عجز الميزانيات العامة.
تغير طبيعة العمل له تأثير. كلما كانت الوظيفة أقل أمانا للموظف، قلت العلاقة بين البطالة والأجور. أسهم تطور التقنية في حصول هذه التغيرات.
وأكرر، من المهم جدا أن ندرك أن الاقتصاد كالفيزياء، لكل فعل رد فعل.

إنشرها