Author

ذهب الصين .. ودولار أمريكا

|
ما كل ما يلمع ذهبا.. هذا مثل معروف فماذا يحدث لو عكسنا منطقه إلى: ما كل ذهب يلمع؟ وطبعا يكون المقصود باللمعان هنا مدى تأثيره في تعظيم العوائد الاقتصادية. ما دعا إلى هذا المدخل أن الأنباء قبل أيام تناقلت خبر مسعى الصين لفك خناق الدولار وهيمنته على حراك الاقتصاد العالمي، من خلال استدراج الذهب بجانب عملتها "اليوان" ليكون مقابلا ماديا تدفع به قيمة الطاقة النفطية في العقود الآجلة، فهي دولة تمتلك أكبر كمية من مخزون الذهب، ولعلها ترى في توظيفه كمقابل سعري للطاقة البترولية بدلا عن الدولار فرصة تتيح لها أن تفيد من هذا المخزون من ناحية، وأن يؤدي هذا المسلك مع مرور الوقت إلى زعزعة هيمنة الدولار، وسريان العمل بالذهب، أو أن يحدث خلخلة في المكانة التاريخية لرسوخ الدولار ويفتح ثغرة تغري دولا أخرى للانخراط في هذا الاتجاه. ومع أن الاقتصاديين الصينيين يعلمون، بكل تأكيد، محاذير هذا التوجه، ويدركون أن الذهب رغم كونه مأمونا في قيمته الاقتصادية، وأن المصارف لن تمانع في استقباله، إلا أن الذهب، رغم هذا، لا يملك خاصية سهولة التداول به، كما أن العوائد عليه ليست ديناميكية بل بطيئة لا يمكن أن تلعب لمصلحته استثماريا في السرعة والتنوع وبالتالي لا يحقق التراكم في الربح على النحو الذي تحققه العملات، ولا سيما الدولار المسيطر. لا يغرب عن البال أن هذا المسعى له قراءته السياسة أكثر من الاقتصادية فقد سبق للصين أن قامت في المسار ذاته بتأسيس صندوق نقد خاص بدول البريكس. ومع أن هذا الصندوق قدم بعض الخدمات لأعضائه، لكنها لم تكن خدمات بالثقل الذي يمكن أن يقارن بالدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي، فقد ظلت هذه الدول غير قادرة على الإفلات من هيمنة صندوق النقد الدولي بجانب البنك الدولي اللاعبين المركزيين في إدارة السياسات المالية والاقتصادية على المستوى الدولي، بقيادة الدولار طوال العقود الماضية. إن الصين، التي تسارع ارتفاع معدلات النمو فيها مع ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، قد أخذت تعاني تراجعات في تلك المعدلات، ليس فقط لأسباب هيكلية خاصة بطبيعة النظام الاقتصادي بقيادة الحزب الشيوعي كضابط إيقاع للحراك الجديد، وإنما لأن الصين من حيث الطبيعة والموارد، ليست كالولايات المتحدة. فهذه الأخيرة تزخر بثراء وتنوع في مختلف الموارد الطبيعية والزراعية وغير الزراعية، ناهيك عن كتلة شعبية نوعية بتعليم متقدم ومهارات فائقة عمرها لا يتجاوز القرن فيما تواجه الصين أكثف تجمع بشري، لا تشكل فيه الفئة المتعلمة أو النخب المميزة بالمهارات العالية ثلث سكانها فضلا عن مصاعب مواجهة تلبية احتياجاته الضرورية فيما لا يتجاوز سكان أمريكا 400 مليون تغلب عليهم سمة فائض الترف. إذا فثمة حقائق واقعية وموضوعية لا تقف قطعا إلى جانب الصين لكي تستطيع فك خناق الدولار عنها أو التخفف من الارتباط به، فلا حصاد بيدرها بقادر على أن ينافس بأي حال حصاد البيدر الأمريكي ولا الرأسمال البشري. فهذان الاثنان معا هما أساس الامتياز الاستثنائي لأمريكا، فهي ليست الأولى في الاقتصاد والتقنية والصناعة فحسب ولكنها القوة الناعمة الفائقة التي لا تضاهيها أي دولة من الدول المتقدمة. ولعل تفوقها الهائل في مجال البحث العلمي والإنفاق عليه، يدل على المكانة العظمى لأمريكا فهو المؤشر الأكثر دلالة على الثقل الكوني النوعي الفريد للولايات المتحدة فمعه وبه سادت أمريكا وهيمنت، في مختلف القطاعات الإنتاجية والتجارية والخدمية ولا يتوقع أن تتم منافستها على المدى المنظور. ومن هنا فقد تجد الصين في اتجاهها الجديد إلى المقابلة للطاقة البترولية (أو غيرها) بالذهب، من يقبل بهذه المقايضة، وقد يحقق لها شيئا من الانفراج الاقتصادي، لكنه سيظل انفراجا محدودا جدا، ولمدى قصير أيضا.. أو ربما لاستمرار غير ذي تأثير مثله مثل تأثير "صندوق البريكس".. وبالتالي فسيظل الدولار وأدواته وبالذات "صندوق النقد" و"البنك الدولي" رواسخ في مكانها في القمة.. لا يزحزها عنها لا الذهب.. ولا أية عملة أخرى أو بديل آخر.
إنشرها