Author

اللغة العربية .. والكتابة بخط اليد

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تناقلت وكالات الأنباء خبرا مفاده أن جامعة كامبردج البريطانية العريقة ستمنع الكتابة بخط اليد من قبل الطلبة عند أدائهم الامتحانات. خطوة كهذه، وهي آتية لا محالة، تعني أن طلبة الجامعة عليهم تأدية الامتحانات والواجبات التي تتطلب الكتابة من خلال أجهزة الحاسوب المحمولة منها أو اللوحية أو غيرها. أن تأخذ الأجهزة الرقمية التي تساعدنا على الكتابة دورها الذي تستحقه في حياتنا، هذا لعمري أمر علينا قبوله طوعا لأنه لم يعد بمقدورنا مقاومة الحاسوب الذي بدأ يحتلنا ويبسط سيطرته على شتى مظاهر حياتنا. ولن أذهب بعيدا إن قلت إن الأجهزة الذكية (النقال مثلا) صارت كأنها عضو من أعضاء جسمنا. نحملها معنا في حلنا وترحالنا وننام وهي معنا وننهض وهي في حضننا. تلتصق بنا أو ألصقناها بأنفسنا وكأننا ولدنا معها شأن أي عضو من أعضاء جسدنا. وهذه الأجهزة أيضا أخذت تلعب دورا خارج نطاقها الرقمي والتكنولوجي؛ أي أنها أخذت تؤدي وظائف خارج نطاق كونها أداة اتصال أو أداة ذات نفع بشري عام. وهنا تكمن خطورتها بدليل أنها صارت عاملا مؤثرا وحاسما في تحديد المسار الذي سنسلكه من الناحية الثقافية والاجتماعية ناهيك عن تأثيرها في الوظائف التي تؤديها باقي أعضاء أجسادنا. وأظن أن قول الشاعر أبو القاسم الشابي: "وأول الغيث قطر ثم ينهمر" يوائم التحولات الجذرية في مسار الثقافات الإنسانية التي تسببها هذه الأجهزة، وآخرها كان قرار جامعة كامبردج منع الطلبة من الكتابة بخط اليد عند أداء الامتحانات. والسبب الذي تذكره هذه الجامعة العريقة التي تعود جذورها إلى مستهل القرن الـ 13 وجيه للغاية. تقول الجامعة إن أساتذتها يعانون الأمرين عند تصحيح الأوراق والدفاتر الامتحانية المكتوبة لرداءة الخط. الطلبة شأنهم شأن الأغلبية الساحقة من الناس في عصرنا هذا لم يعودوا يستنجدون بالكتابة بخط اليد للتعبير أو أداء أي وظيفة كتابية أخرى. أجهزة الحاسوب هي التي تساعدنا على كتابة ليس الخطوط فقط، بل أحيانا كثيرة في منحنا خيارات لما يراود ذهننا من جمل وعبارات وانتقاء ما نراه مناسبا. عندما تكتب هذه الأجهزة بدلا عنا، هذا معناه أننا لم نعد في حاجة إلى الكتابة بخط اليد. وكي يكون خطنا مقروءا نحتاج إلى كثير من الممارسة. خط الطلبة في جامعة كامبردج لم يعد مفهوما من قبل الأساتذة. هذه أول مرة في التاريخ ترى فيه مؤسسة تعليمية أن الحاجة انتفت إلى الكتابة بخط اليد. ومن هنا لم تعد هناك حاجة إلى مادة الخط والإملاء وربما مستقبلا حتى الإنشاء لأن الأجهزة الذكية تقوم أو ستقوم بذلك على أكمل وجه. وقد لا يكون هناك تأثير بالغ الأهمية إن غادر الناس الكتابة بخط اليد في اللغة الإنجليزية أو لغات أخرى. بيد أن الخط فن في العربية، لا بل ثقافة. الخط بالعربية جزء من اللغة وتدريسه وتعلمه أراه مكملا للتشبع بالثقافة التي تكتنفها لغة الضاد. ومن ثم علينا التوقف والتحذير من القادم من الأيام لأن الحاسوب الذكي بدأ يخترع لغة خاصة به باستطاعتنا أن نطلق عليها لغة هجينة ولكنها وسيلة اتصال بإمكان شعوب العالم المختلفة التواصل والتفاهم من خلالها. الرموز التعبيرية الثابتة والمتحركة التي ترافق الأجهزة الرقمية التي نستخدمها بكثرة تلعب اليوم دورا في التواصل وقد تلغي كثيرا من وظائف الاتصال والتواصل التي كانت حكرا على اللغة حتى الآن. وأرى أيضا أن الوظيفة الثقافية التي تلعبها هذه الأجهزة ولا سيما في التواصل والاتصال أكثر خطرا على اللغة العربية منها على اللغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى. في العربية، البون شاسع بين اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة. هناك عشرات "اللغات" المنطوقة السائدة والرائجة لدى الناطقين بالعربية، بيد أن اللغة الفصيحة واحدة. ومن تجربتي في التدريس وإلقاء المحاضرات في البلدان العربية أرى أن مسألة التمكن من ناصية اللغة الفصيحة ليس فقط على مستوى الطلبة بل حتى على مستوى الأساتذة صار أمرا صعب المنال. أما الكتابة بخط اليد فهي من السوء بمكان حيث من الصعوبة في كثير من الأحيان فك رموز طلاسمها. لا علم لي إن كان أصحاب الشأن في المؤسسات التي تعنى بشؤون اللغة العربية على دراية بالخطر المحدق بهذه اللغة الجميلة والوحيدة في العالم التي حافظت ليس على رونقها، بل نقائها وفصاحتها ونحوها وصرفها لنحو 1400 عام.
إنشرها