Author

التصدي لمخالفات المكاتب العقارية

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
في الوقت الذي تشهد خلاله السوق العقارية المحلية مزيدا من تضعضع أدائها، وتراجع قيم صفقاتها ومستويات أسعارها المتضخمة جدا، ويتوقع استمراره لعدة أعوام مقبلة، كان متوقعا كأي سوق أن يندفع الناشطون في سوق العقار نحو زيادة تسويق بضاعتهم، ومحاولة تخفيف الضغوط الكبيرة الواقعة عليهم، والاعتماد كعادة الأسواق على تقديم التحفيزات السعرية أمام المستهلكين، إلا أن العكس من ذلك حدث من قبل شريحة واسعة من أطراف السوق العقارية، واللافت أن أغلب تلك الأطراف كان من خارج ملاك الأراضي والعقارات، ممثلا في الوسطاء العقاريين والسماسرة في مكاتب العقار، الذين لجأوا عبر تكتلات واسعة النطاق، خدمتهم في تحقيق الهدف المخالف نظاميا من تأسيس تلك التكتلات، ممثلا في التأثير على مستويات الأسعار، سواء البيع أو الإيجار التطور الكبير لوسائل الاتصالات. يثبت تلك المخالفات الصريحة، والمرتكبة من قبل عديد من المكاتب العقارية، الرسائل الصوتية وغيرها من الرسائل المتبادلة بين تلك المجموعات العقارية، التي انتشرت كالنار في الهشيم بين مختلف شرائح المجتمع، تضمنت أقوالا وتوصيات صريحة من قبل السماسرة العقاريين، بالعمل المستمر على التنسيق فيما بينهم، وعدم السماح للمستهلكين بخفض أسعار البيع أو الإيجار، ورفضا تاما لقوى العرض والطلب القائمة الآن في السوق العقارية، التي تعني حرية تحركها واتجاهها فقط نحو الانخفاض، وفقا للعوامل الاقتصادية والمالية المسيطرة الآن على سوق العقار منذ منتصف 2014. بل وصل التحكم ومحاولة التلاعب في الأسعار من قبل عديد من تلك المكاتب العقارية، إلى تحديد أو تثبيت الأسعار بيعا أو إيجارا، ومحاولة فرضها قسريا على الطرفين الأهم في السوق "البائعين أو المؤجرين، المستهلكين"، وهو بلا شك المخالفة الصريحة للأنظمة المعمول بها في المملكة، في مقدمتها نظام المنافسة، أخذا بالاعتبار أن الوضع الفعلي الذي نشأت عنه تلك المخالفات الصريحة، يتضمن مخالفات أكبر وأخطر لأكثر من نظام معمول به، وما نراه ظاهرا منها ليس إلا سنام الجمل، وما تحته يظل أكبر وأوسع حجما وخطرا، أصبح من الضرورة القصوى على الأجهزة الحكومية ذات العلاقة التدخل الحازم، لوقف تلك المخالفات فورا، وإيقاع العقوبات النظامية على مرتكبي أي من تلك المخالفات، وأول تلك الأجهزة في هذا الخصوص هو مجلس المنافسة. سبق الإشارة في مقالات سابقة إلى عديد من التشوهات الخطيرة، المتغلغلة في نشاطات المكاتب العقارية محليا، التي نتج أغلبها عن زيادة سيطرة العمالة الوافدة على نشاطاتها، وتحولها لاحقا إلى ما يشبه الكارتل التجاري الواسع النطاق في أغلب أحياء المدن والمحافظات. أوصلت تلك السيطرة الشاملة للعمالة الوافدة على المكاتب العقارية، إلى أن أصبحت تلك المكاتب ونشاطها أقرب إلى "الصندوق الأسود"، تمكنت داخله العمالة الوافدة من بناء شبكات العلاقات والتنسيق والنفوذ فيما بينها، تتشكل من مستويين رئيسين: المستوى الأول ممثلا في دائرة التنسيق والسيطرة على أكبر حصة من السوق العقارية حسب "جنسية" أقطاب تلك الدائرة. تنتقل إذا تطلب الأمر وفق "أعراف سوقية محددة" إلى المستوى الثاني، تلك "الأعراف" التي استغرق تشكلها والاتفاق عليها والعمل بها سنوات عديدة، سمح بتكونها وسيطرتها حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم من قوة نافذة لا يشق لها غبار؛ الغياب شبه التام للإشراف والرقابة والتفتيش والمتابعة والتدقيق وبقية الإجراءات النظامية اللازمة عليها. فما هذا المستوى الثاني يا ترى بعد هذا الاستطراد القصير؟! المستوى الثاني: قيام علاقات أوسع وأكبر بين عدة دوائر من جنسيات مختلفة، تستهدف بالطبع حماية الحصص السوقية المسيطر عليها من قبل كل دائرة على حدة، وتسوية المستحقات المالية فيما بينها، من خلال تبادل المعلومات والمنافع وتلبية احتياجات المستأجرين والمشترين على حد سواء، وهي ذات الأدوار والمهام التي تتم تحت سقف المستوى الأول، إلا أنها تتم في هذه الحالة على نطاق أوسع يجمع فرقاء في الجنسية. استفادت العمالة الوافدة كثيرا من عدد من الأسباب والتشوهات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من سيطرة شبه كاملة على أنشطة المكاتب العقارية، بوأتها تلك السيطرة والنفوذ الكبيرين للمساهمة بصورة أكبر في زيادة تعقيدات الأزمة العقارية والإسكانية لدينا، كان من أخطر تلك الأدوار التي قامت بها: (1) الزيادة غير المبررة في الأسعار، سواء أسعار الأصول العقارية باختلاف أنواعها، أو على مستوى تكلفة الإيجارات سكنيا أو تجاريا. (2) محاربتها وطردها المستثمرين والعاملين من المواطنين في المكاتب العقارية. أدى كل ذلك بدوره إلى كثير من المساوئ الخطيرة جدا، بدءا من إغلاق الخيارات على المستفيدين والمستهلكين على حد سواء، والتحكم المفرط دون قيد أو شرط في أسعار البيع والشراء والإيجارات، ولا عجب فكلما ارتفعت الأسعار والإيجارات، زادت بكل تأكيد الغلة الثمينة من السمسرة والوساطة، وتطور في الوقت ذاته دور تلك المكاتب العقارية من مجرد الوساطة العقارية، إلى لعب دور أكبر من ذلك بكثير تمثل فيما يشبه دور "صانع سوق"، انحصرت مهمته الرئيسة هنا فقط في دفع الأسعار والإيجارات للارتفاع الزاحف دون النظر إلى أية اعتبارات أو ظروف اقتصادية ومالية محيطة، وهو الخلل الذي تقع مسؤولية معالجته والتصدي له بالدرجة الأولى على كل من وزارات التجارة والعمل والإسكان. إن ما يقوم به عديد من المكاتب العقارية من مخالفات صريحة، لم تقف فقط عند مجرد تورط العمالة الوافدة في جرائمها، بل امتدت مع الأسف إلى عديد من المكاتب العقارية التي يملكها ويعمل فيها مواطنون! استهدفت تلك التكتلات مجتمعة تحديد أو تثبيت الأسعار بيعا أو تأجيرا، عدا أن من سيدفع ثمنه أكثر من غيرهم من الأطراف ممثلا في الملاك والمستهلكين، إلا أنه يمثل بأخطاره الصريحة اقتصاديا واجتماعيا بابا واسعا لكثير من الآفات، التي لا شك أن الاقتصاد الوطني وبيئته الاستثمارية أكثر المتضررين من اتساع رقعتها القائمة على المخالفات والتلاعب بالأسعار، ما يعني بدوره أن على مجلس المنافسة التحرك فورا نحو التصدي بكل حزم وقوة لوقف ومعاقبة تلك المخالفات الخطيرة، وتطبيق العقوبات "الغرامات، السجن، التشهير" التي نصت عليها الأنظمة، وهي الأدوات القادرة نظاما على إيقافها وردعها قبل أن يتسع شرها المستطير، الذي لن يفلت منه اقتصادنا ومجتمعنا إذا سمح له أن ينتشر دون عقوبات وردع. يمتلك مجلس المنافسة القدرة الكافية على أداء تلك المهام والمسؤوليات الواجبة عليه، وهو الدور المنتظر أن نشهده جميعا على وجه السرعة من قبل هذا المجلس الذي أثبت كفاءته سابقا في كثير من التجارب والأسواق، وأن يدرك المخالفون في عديد من المكاتب العقارية، أن ارتكاب مثل هذه المخالفات سيتصدى له النظام والقائمين عليه، وأنه لن يمر مرور الكرام كما سولت لهم أطماعهم وأهواؤهم. والله ولي التوفيق.
إنشرها