Author

«حرب أهلية» منوعة في بريطانيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"ما تحتاج إليه بريطانيا سيدة حديدية" مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة في بريطانيا.. كل شيء صار متصلا بـ "بريكست"، حتى إن النقص في عدد القابلات، وسائقي الحافلات، ومرشدي القطارات، والعاملين في الإطفائيات، بات يعلق على مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كأن "الحلم" تحقق في العثور على حامل للمشكلات الصغيرة والكبيرة في هذا البلد. حزب المحافظين الحاكم أكثر من منقسم، وحزب العمال المعارض فيه من الفوضى ما يكرس الانقسام. ناهيك عن الانقسام المتصاعد بين أولئك الذين يعدون الأيام لتحقيق الانفصال عن الاتحاد، وبين الشريحة التي لا تزال تأمل في معجزة ما تؤخر "على الأقل" هذا الانفصال. بريطانيا الآن، ليست سوى ساحة للاتهامات المتبادلة التي طالت حتى كبار السن الذين يتحملون مسؤولية ترجيح كفة المقاتلين من أجل الطلاق الأبدي من الاتحاد الأوروبي. هل هي "حرب أهلية" حقا؟ لا يوجد توصيف أكثر ملاءمة من ذلك. المفاوضون من جهة الحكومة مع الاتحاد الأوروبي، يتعرضون لضربات من زملائهم في الحكومة نفسها! ووصلت هذه الضربات إلى حد التصادم في آليات الانسحاب بل أهدافه! في حين أن الطرف الآخر "الاتحاد الأوروبي" يمضي قدما في مواقف أوروبية متجانسة إلى حد التطابق في كل المحاور المطروحة. المشهد البريطاني، أصبح حديث أوروبا من حيث "الولدنة" السياسية البريطانية، في مسألة مصيرية بكل معنى الكلمة. فكل خلاف بريطاني محلي، هو في الواقع انتصار أوروبي لا يحتاج إلى جهد لا في المفاوضات ولا في المناورات. ولا ينقص إلا أن يقول الأوروبيون لشركائهم المنسحبين: اتفقوا على موقف واحد وتعالوا للتفاوض، لا وقت لدينا للمهاترات. في لندن.. حكومة ضعيفة، ضعيفة جدا، تقودها رئيسة وزراء تحكم بائتلاف هش، بل مضحك من حيث التكوين. ناهيك عن أن تيريزا ماي استمرت في موقعها كرئيسة للوزراء بعد انتخابات عامة خسرت فيها أغلبيتها. ولهذا السبب وغيره، بدأ بعض أركان حزبها العمل على إزاحتها في أسرع وقت ممكن. وانطلق بعض الأركان الآخرين إلى إزاحة رئيس وزراء محتمل هو وزير المالية فيليب هاموند، الذي يمثل في نظر هؤلاء خطرا داهما، باعتباره أكثر اعتدالا في مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذا الأخير أعلن مواقفه في أكثر من مناسبة، ولا سيما تلك الداعية إلى استمرار عضوية بريطانيا حتى بعد الموعد النهائي للانسحاب لعامين إضافيين على الأقل، من أجل تأمين انسحاب سلس لا يضرب الآليات التنفيذية على الساحة البريطانية. هاموند نفسه الذي وقف إلى جانب تيريزا ماي للوصول إلى زعامة الحزب في أعقاب استقالة الزعيم السابق ديفيد كاميرون، يتعرض لانتقادات من ماي مباشرة، خصوصا أن الأخيرة لا تريد التوقف عن تملق قادة تيار الانسحاب "بريسكت"، أملا في أن يقفوا إلى جانبها في أي محاولة جديدة لعزلها. فهي تعلم أنها تعيش وتحكم على حافة الهاوية، كما أنها لم تعد تمثل ملجأ لا لجبهة الانسحاب، ولا لتكتل البقاء. إنها تسعى إلى البقاء في المنصب أطول فترة ممكنة، على أمل حدوث معجزة ما تكرسها زعيمة للحزب ورئيسة للوزراء حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة بعد خمس سنوات تقريبا! غير أن الحقائق على الأرض لا تشير إلى إمكانية حدوث ذلك، بينما المرجح ألا تبقى في هذا الموقع في العام المقبل. فوضى "بريسكت" أكملت دائرة "الحرب الأهلية" الناعمة. إنها "حرب" انتخابية استفتائية سياسية. ويمكن القول أيضا، إنها "حرب الزعامات" كما هي "حرب" الرأي العام. لكن المشكلة تكمن أيضا في عدم وجود زعامات بديلة قوية، فيما لو استثنينا وزير المالية هاموند، علما بأن هذا الأخير قد لا يصمد طويلا أمام الحرب التي يشنها الانفصاليون عن أوروبا ضده. غير أن الأهم من كل هذا، هو المشهد العام في المملكة المتحدة، وآفاق التغيير في هذا البلد على المديين المتوسط والبعيد. فالهم لا ينحصر في انسحاب سلس أو قاس من الاتحاد الأوروبي، بل يشمل أيضا "انسحابات" بريطانية داخلية محتملة ترتبط بالموقف الاسكتلندي والإيرلندي الشمالي. وهذه الانسحابات ما كانت لتطرح على الساحة، لولا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أساسا. ليس هناك بارقة أمل واحدة بأن تعيش بريطانيا استقرارا سياسيا في السنوات المقبلة. ليس فقط بسبب وجود حكومة ائتلافية هشة، بل أيضا من جهة التحولات الخطيرة التي سيتركها الانسحاب من أوروبا في الساحة البريطانية. خصوصا، بعد أن تكشفت أكاذيب معسكر "بريسكت" بشأن الوفر المالي البريطاني الذي "سيتحقق" بمجرد الانسحاب! يضاف إلى ذلك التركيبة البنيوية التي تركتها المعايير الأوروبية والتراكم الذي خلفته عضوية بريطانيا في الاتحاد على الساحة في المملكة المتحدة. ومن الآن حتى عام 2019 "موعد الخروج الفعلي البريطاني"، ستشهد بريطانيا مزيدا من التخبط السياسي الداخلي، وكثيرا من التشتت في المفاوضات التاريخية الخاصة بالانسحاب. كل شيء مرهون بطبيعة اتفاق الخروج. دعك من شعارات تيريزا ماي، ولا سيما تلك التي اعتبرت فيها أن الخروج بلا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ.
إنشرها