Author

السكن .. الطمأنينة والانتماء

|

في حديث عابر مع أحد الإخوة السودانيين، حيث كنا جالسين في انتظار دورنا في المصرف، تطرقنا إلى أمور كثيرة، رغم عدم معرفتنا لبعض من قبل، إذ تناول الحديث الوضع الاقتصادي في السودان، وما يجب أن يكون عليه، حيث النيل، والمراعي، والأراضي الخصبة، ومع ذلك لا يزال دون المطلوب بكثير، ومع أن الأخ لا يبدو عليه التعليم العالي إلا أن لديه ثقافة، وإلماما بأمور كثيرة، نظرا لكبر سنه، وقد جذبنا الحديث إلى السكن في السودان، وكيفية تملك المواطنين العاديين الأراضي السكنية، فكانت الإجابة أنه بجانب وراثة الأرض، والتملك المباشر، والشراء، تمنح الحكومة أراضي سكنية، إذ أثنى على الرئيس جعفر نميري، حيث منحه أرضا في الخرطوم في حي الرياض، كما ذكر ــ ولأول مرة أعلم بوجود حي بهذا المسمى ــ لقد استرعى انتباهي ثناؤه المفرط على النميري، رغم أن ما أعلمه عنه أن السودان لم تشهد نموا وتطورا في عهده، نظرا إلى التقلبات السياسية التي مر بها، فمن اليسار إلى اليمين في محاولة للاحتفاظ بكرسي الرئاسة، حتى أطاح به عبدالرحمن سوار الذهب.
توقفه عند منحة الأرض وثناؤه على الرئيس نميري جعلني أتوقف عند السكن، ودوره في مشاعر الناس، واتجاهاتهم، ذلك أن السكن فيه طمأنينة، وراحة، ولم شمل للأسرة، مهما كان نوع السكن، ومساحته، "والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم". هذا الحوار، رغم مضي فترة عليه إلا أنه لازمني لفترة طويلة خاصة عندما أقرأ، وأشاهد حديث المواطنين عن الإسكان، ومعاناتهم في امتلاك الأراضي، والأنظمة الجديدة المرتبطة بالسكن، واستحداث منتجات سكنية جديدة، تتمثل في القروض من خلال المصارف، والإسكان الجاهز الذي يعطى للمواطنين على شكل قروض مقسطة، إضافة إلى قروض الصندوق العقاري.
امتلاك مسكن يأوي الفرد وعائلته يمثل أمنية لكل فرد على هذه البسيطة، ولا أعتقد أن أحدا يرضى أن يظل طوال عمره غير متملك لمسكن، ينتقل من بيت إلى آخر، ويتابعه المكتب العقاري لسداد الإيجار، وهذا ما عبر عنه كثير من المواطنين الذين لا يزالون لم يسعفهم الحظ لامتلاك مسكن العمر الذي يحلمون به. من المشكلات التي تحول بين الفرد وامتلاك السكن غلاء أسعار الأراضي الفاحش، الذي بلي به الوطن خلال العقود الماضية، والناتج عن الإقطاعيات الضخمة التي رفعت الأسعار، حتى وصل سعر المتر السكني في بعض المدن إلى أسعار خيالية يستحيل معها امتلاك كثير من الناس الأرض، فضلا عن تكاليف البناء، مع محدودية الدخل لمعظم المواطنين.
نظام الرسوم على الأراضي هدفه لجم والحد من أسعار الأراضي المبالغ فيها، خاصة أننا في بلد شاسع تفوق مساحته مليوني كيلو متر مربع، إلا أن الآثار الإيجابية لهذا النظام قد لا تظهر إلا بعد فترة من تطبيق النظام، ولذا على الحالمين بامتلاك المساكن الانتظار لسنوات عديدة ليحققوا الحلم. تنوع المنتجات السكنية الذي تشرف عليه وزارة الإسكان وتسهم فيه، يواجه كثيرا من عدم الرضا والقبول، خاصة فيما يتعلق بالفوائد التي تأخذها المصارف على القروض المقدمة للمضطرين إلى هذا البرنامج، وقد عبر الكثير عن هذا الشعور على شاشات التلفزيون، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما أن المنتجات السكنية المتمثلة في المساكن الجاهزة من فلل وشقق عليها كثير من الملاحظات، سواء في سوء تنفيذها، وتصدعها، أو في ضيق مساحاتها، وعدم ملاءمتها لعدد أفراد الأسرة، حتى إن أحد المواطنين قالها بصراحة أمام وزير الإسكان، "كيف يعقل أن أعطى شقة من ثلاث غرف نوم، وأفراد أسرتي 11 فردا"!
السكن ليس أربعة جدران، إنما طمأنينة، وراحة، وشعور بالأمان، والتئام شمل، ولذا أعتقد أن تولية الحكومة بناء المساكن ليس بالفكرة الأفضل، لما يترتب عليها من مشكلات إدارية، وفنية، نتيجة التنفيذ السيئ للشركات المنفذة، أو المستثمرين العقاريين، لما يلاحظ على منتجاتهم العقارية من عيوب جمة، ولذا، من أجل التوفير في المال العام، وتحقيق طموحات المواطن المسكين يستحسن العودة إلى نظام الصندوق العقاري، حيث يمنح المواطن القرض، ويخطط مسكنه، وينفذه وفق احتياجاته الآنية والمستقبلية، ويكون مشرفا على تنفيذ بيته، ويختار الأدوات المناسبة.
إن تملك المواطن بيتا يجعله أكثر ارتباطا وانتماء للوطن، ويزيد من سعادته، وأكثر تفرغا لتربية أبنائه، والعمل على بناء مستقبلهم، فهل نتمكن من استحداث البرامج الميسرة لطموح المواطن، ونتجنب كافة الأنظمة التي تزيد من معاناته في تملك المسكن؟!

إنشرها