FINANCIAL TIMES

المال والسياسة .. حملة صينية لترويض صناع الصفقات

المال والسياسة .. حملة صينية لترويض صناع الصفقات

المال والسياسة .. حملة صينية لترويض صناع الصفقات

بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، احتياطيات البلد من النقد الأجنبي هي رمز على القوة الوطنية وحاجز حاسم ضد الصدمات الاقتصادية. لذلك الإعلان المُثير للإزعاج الذي تضمن أن احتياطيات النقد الأجنبي انخفضت إلى أقل من ثلاثة تريليونات دولار في كانون الثاني (يناير) كان علامة على تحوّل في خطوط الصدع السياسية التي لم يتم الشعور بها إلا هذا الصيف.
مع خروج تريليون دولار من الصين خلال الأشهر الـ 18 السابقة وسط موجة من عمليات الاستحواذ الخارجية الكبيرة، ازداد الشعور بالأزمة داخل الحزب.
أعدّ التكنوقراطيون في بكين القاعدة لاتّخاذ الإجراءات. في كانون الأول (ديسمبر)، تمكّنوا من ربط عبارة "الأمن القومي" بمفهوم المخاطر المالية خلال مؤتمر العمل الاقتصادي السنوي الذي يضع جدول الأعمال. وبدعم من أرقام الاحتياطيات كانوا مستعدين لتوجيه ضربة ضد ما اعتبروه الجاني الرئيسي؛ الجيل الجديد من الشركات الصينية الخاصة التي تجري عمليات استحواذ كثيرة.
هذه التوترات داخل النظام خرجت إلى العلن في الشهرين الماضيين، مع إذلال عدد من أشهر الشركات الخاصة وأوطدها علاقة بالمسؤولين في الصين، التي استحوذت في الأعوام الأخيرة على أصول أجنبية رفيعة المستوى مثل فندق والدورف أستوريا في نيويورك وشركة الترفيه الفرنسية "كلوب ميد".
في تحوّل مفاجئ، مجموعة من رجال الأعمال الذين كان يُشاد بهم باعتبارهم الوجه الدولي للصين أصبحوا الآن عرضة للاستهزاء في وسائل الإعلام الحكومية باعتبارهم مصدر الخطر الذي يهدد سلامة النظام المالي بأكمله. وتعرّض القطاع الخاص لصدمة بسبب الوثائق المُسرّبة، وعمليات تشويه السمعة، واحتجاز رجل الأعمال الأكثر اندفاعا في الصين.
المسألة التي تبدو فنية في ظاهرها المتمثلة في انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي أصبحت سلاحا سياسيا في الوقت الذي يحاول فيه الرئيس تشي جينبينج حشد ما يكفي من القوة للسيطرة على خلافته. الهجمات على رجال المال من القطاع الخاص سمحت له بالتغلّب على قاعدة دعم الفصائل المنافسة.
يقول فريزر هاوي، المؤلف المُشارك لكتاب "الرأسمالية الحمراء" والمختص في القوانين التنظيمية الصينية "رأس المال الخاص يحظى بترحيب طالما يكون في خدمة الحزب الشيوعي". هذا الصيف "سحبوا بقوة كبيرة السلسلة الموجودة على عنق الجميع في الصين".
سمحت الحملة للتكنوقراطيين بكبح بعض أسوأ التجاوزات في طفرة عمليات الاستحواذ التي يُمكن أن تكون قد ألحقت الضرر باقتصاد وسمعة الصين. لكنها أدت أيضاً إلى إجراءات تعسفية تركت القطاع الخاص بدون فكرة واضحة عن نوع النشاط المسموح به، الذي أدى إلى انعدام الثقة بين الشركات الأجنبية التي تتطلع إلى عقد صفقات مع الشركات الصينية.
يقول تشو نينج، الأستاذ في كلية بي بي سي للعلوم المالية في جامعة تسينجهوا "بطريقة ما، الحظر "على الاستثمار المتجه إلى الخارج" ربما يبدو منطقياً من منظور الاستقرار المالي. لكن مثل هذا الحظر بدون إصلاحات جوهرية سيكون في نهاية المطاف غير مُجد على صعيد السيطرة على رأس المال أو تعديل أنموذج النمو الاقتصادي".

غارة منتصف الليل

بدأت الحملة على القطاع الخاص في حزيران (يونيو) مع غارة في منتصف الليل انتهت باعتقال وو شياو هوي، الرئيس المغرور لشركة التأمين الجديدة "آنبانج"، الذي تزوّج حفيدة دينج زياو بينج، الزعيم الصيني الأسبق الذي أطلق إصلاحات السوق في أواخر سبعينيات القرن الماضي. ولم يُسمع من وو منذ ذلك الحين.
في الأسابيع التي تلت اعتقاله، شركة العقارات العملاقة "داليان واندا" واثنتان من الشركات الأخرى التي جسّدت التدفق الخارج السريع لرأس المال في الصين خلال العامين الماضيين - مجموعة "إتش إن آيه" التي تنشط في مجال الطيران والخدمات المصرفية ومجموعة السلع الاستهلاكية العملاقة "فوسون" - كانت مُستهدفة من تسريبات تأتي من أماكن موثوقة وتلميحات وسائل إعلام حكومية. معاً، الشركات الأربع كانت تُشكّل ما يُقارب خُمس عمليات الشراء الخارجية في الصين في عام 2016. "إتش إن آيه" و"داليان واندا" و"آنبانج" كانت من بين المشترين الستة الأبرز ذلك العام.
بالنسبة إلى المنظمين، أحد المخاوف المحددة يتعلق بأن الأموال المُستخدمة لبعض عمليات الاستحواذ الخارجية تم جمعها من خلال قنوات من المحتمل أنها محفوفة بالمخاطر، مثل تمويل الظل ذي الفائدة العالية في الصين، أو القروض الخارجية المضمونة بأصول محلية قيمتها متضخمة بشكل اصطناعي. شعر المسؤولون بالقلق من أنه في حال حدوث إعسار قد لا تكون هناك أي أصول للتسديد للمستثمرين المحللين.
في مقدمة مثيري المخاوف تبرز "آنبانج"، شركة التأمين الجريئة التي ارتفعت من موقع يبدو أنه لا شيء تقريبا إلى المرتبة السادسة في جدول عمليات الدمج والاستحواذ الخارجية الصينية في عام 2016. وكانت آنبانج قد جمعت الأموال من خلال بيع منتجات التأمين على الحياة التي يُمكن اعتبارها منتجات استثمارية مُتنكّرة "بوليصة تأمين على الحياة عامة قد تكون مُستحقة في غضون عامين إلى خمسة أعوام".
يقول أحد كبار المسؤولين التنفيذيين الأمريكيين في مجال التأمين "آنبانج ليست شركة عادية. لم يكُن بالإمكان المساس بها لأسباب سياسية، وبالتالي دخلت في أصول وممارسات استثمارية تُعتبر بغيضة في الصناعة: عدم تطابق الأصول والمطلوبات على المدى الطويل، وعدم تطابق العملة، وعدم التحوّط".
حجة المنظمين التي تقول إن الخدمات في مصرفية الظل تُشكل خطراً قويا وجدت لها حليفا غير متوقع في جهاز الأمن الصيني. الناس العاديون الذين كانوا قد خسروا المال في المنتجات ذات الفائدة العالية خرجوا إلى الشوارع في كل محافظة خلال الأعوام القليلة الماضية. لا شيء يجتذب اهتمام الحزب الشيوعي مثل الاحتجاج الجماهيري.
يقول جود بلانشيت، الذي يبحث في السياسات الصينية لـ "مجلس المؤتمر"، "الحصول على اهتمام الرئيس تشي بشأن القضايا الاقتصادية يبدو متركزا في مسألة إقناعه بأنها تؤثر في أولويته الأساسية - الأمن القومي. هذا من أساسيات السياسة البيروقراطية القديمة المعروفة".
الاستراتيجية نجحت. في 25 نيسان (أبريل)، أخبر الرئيس تشي كبار قادة الحزب أن "الأمن المالي جزء مهم من الأمن القومي وأساس رئيسي لتنمية الاقتصادات المستقرة والصحية". تردد ذلك في الوكالات التنظيمية كافة وحتى من قِبل وزير الأمن العام هذا الصيف.
يقول تشاو شيجين، نائب مدير كلية التمويل في جامعة رينمين "الأمن المالي أصبح قضية كبيرة. بحلول هذا العام كان هناك تصوّر أن الأمن القومي كان يتعرض للانتهاك. لم يكُن مسألة شركة معينة لكن قضية وطنية".

نظام جديد للأعمال

في عام 1955 العدد القليل من "الرأسماليين" الذين كانوا لا يزالون في الصين الشيوعية دقّوا الأجراس، وكانوا ينظمون مسيرات مبتهجة خلال مراسم التوقيع التي سلّمت إلى الدولة حصة مباشرة في شركاتهم، التي أُعيدت تسميتها الآن مشاريع خاصة حكومية. تلك الأحداث ميّزت نهاية الأعمال الخاصة في البلاد خلال الربع التالي من القرن الماضي.
بعد ستة عقود، لا تزال الشركات الخاصة عُرضة لأهواء الدولة. في عام 2014، نقاش في نادي أصحاب المشاريع الصيني اشتمل على اثنين من أغنى الرجال في الصين. ليو تشوانزي الذي اشتهرت شركته "ليجيند هولدينجز" في الغرب بسبب شراء أعمال الحاسوب الشخصي في "آي بي إم" وتسميتها "لينوفو"، جادل بأن رجال الأعمال في الصين هم الأكثر أماناً طالما ابتعدوا عن السياسة. خصمه وانج شي، مؤسس مجموعة العقارات الأكبر في الصين "فانكي"، رد بقوله "إن الابتعاد ليس كافياً عندما يلاحق السياسيون رجال الأعمال"، وذلك وفقاً لرواية نقلها الباحث تشينج لي.
وانج كان مُحقاً. تم الاستيلاء على شركته من قِبل مجموعة مدعومة من الدولة في حزيران (يونيو). في الوقت نفسه، زملاء ليو وشركاؤه التجاريون منذ فترة طويلة هم الآن في مرمى نيران الدولة. "واندا" و"فوسون" و"إتش إن آيه" جميعا تشترك في علاقات مع لي، فضلاً عن مستثمرين أغنياء في "مينشينج"، البنك الكبير الوحيد المملوك للقطاع الخاص في الصين. قروضهم وصفقاتهم مع بعضهم بعضا توفّر شبكة من الدعم المشترك في بلد لا يزال يعادي هيكلياً الشركات الخاصة.
بعد تعرّضهم للهجوم الآن، أصحاب المشاريع الذين كان يُشاد بهم باعتبارهم الوجه الذي يمثل القوة الناعمة العالمية في الصين تسارعوا إلى احتضان النظام الجديد. وانج جيانلين الذي لا يُنسى عادةً ـ قاد "واندا" إلى هوليوود ـ أكّد للمجلة المالية الصينية "كايكسين" أن شركته "قررت الاحتفاظ باستثمارها الرئيسي داخل الصين".
جو جوانجتشانج، رئيس مجلس إدارة "فوسون"، الذي ترأس عمليات شرائها لـ "كلوب ميد" و"سيرك دو سوليل"، وشركة تأمين برتغالية متعثرة مملوكة للدولة، قال في رسالة مفتوحة الشهر الماضي "التدقيق الأخير على الاستثمارات الخارجية والمخالفات المالية ضروري، وجاء في وقته، ويُمكن أن يقضي على كثير من الاستثمار غير العقلاني". وأضاف "إذا لم نتخذ التدابير، فسينظر إلينا الأجانب على أننا (أموال سخيفة)".
الشركات الأصغر تدافع الآن للاختباء. بعض الشركات الخاصة تطوّعت للاستحواذ على بعض من الشركات المملوكة للدولة الأكثر كارثية في الصين من أجل الحصول على حماية سياسية.
يقول آرثر كروبر، المدير الإداري لـ "جافيكال دراجونوميكس"، "الحزب يشعر بالقلق عندما يتدفق كثير من النشاط خارج قنوات الشركات المملوكة للدولة. في كثير من الأحيان هم بحاجة إلى كبح الأمور، والناس الذين يتضررون هم الأشخاص غير الحذرين سياسياً الذين لديهم كثير من النفوذ".
لدى الحملة هدف ثان: كبح المنافسين المحتملين لتوطيد السلطة الذي يمارسه الرئيس تشي. في الأسبوع الماضي تجمّع القادة وشيوخ الحزب في منتجع بيدايهي على شاطئ البحر لتحديد من سيتم ترشيحهم لمناصب الحزب العُليا هذا الخريف، عندما يبدأ الرئيس تشي فترة ولايته الثانية.
بنى عديد من رجال الأعمال الناجحين علاقات وثيقة بأفراد عائلات النخبة في الحزب الشيوعي. تشديد القبضة على الشركات الخاصة يحرم فصائل الطبقة الحاكمة هذه من قاعدة الدعم المستقل ويتركها تعتمد على حظوتها لدى الرئيس تشي، إذا رغبت في الاحتفاظ بمكانتها وثروتها.
الشركاء الموثوقون المعروفون باسم "ذوي المكانة العالية" الذين يُساعدون العائلات ذات العلاقات الجيدة في نقل الأموال إلى خارج الصين هم الأهداف الرئيسية. أبرزهم شياو جيانهوا الذي تم اختطافه من فندق فور سيزونز في هونج كونج من قِبل عملاء الأمن في البر الرئيسي في كانون الثاني (يناير)، ولم يُعاود الظهور.
في قلب الصراع توجد علاقة الرئيس تشي بوانج تشيشان، وهو زميل من الطبقة الحاكمة، مع مجموعة موالية له بشكل كبير بين التكنوقراطيين الماليين، نفّذ حملة مكافحة فساد لمدة أربعة أعوام لتطهير الفصائل المنافسة بالنيابة عن الرئيس تشي.
بمجرد أن أصبحت المصالح المالية مستهدفة أصبح تبادل إطلاق النار السياسي كثيفاً. عندما تم اختطاف شياو في كانون الثاني (يناير)، ظهر فجأة في نيويورك رجل أعمال منفي يتمتع بعلاقات بجهاز الأمن، اسمه جو وينجوي، مُطلقاً اتهامات بالفساد ضد وانج.
زعم جو أن عائلة زوجة وانج "عائلة قوية من الطبقة الحاكمة" استفادت من أسهم مخفية في شركة إتش إن آيه، التي عمل مؤسسها تحت وانج في الثمانينيات. وقال أحد المسؤولين التنفيذين في "إتش إن آيه"، "إنهم يلاحقوننا بهدف الهجوم عليه". لكن المسؤول التنفيذي نفى أن تكون "إتش إن آيه" على اتصال غير مرغوب فيه بوانج.
في الوقت الذي احتضن فيه الرئيس تشي مفهوم الخطر المالي على أنه قضية أمن قومي، بدأت "آنبانج" في شن هجمات ضد وانج. لكن علاقاتها بعائلة دينج وغيرها من الطبقات الحاكمة ذات النفوذ تحوّلت إلى عائق.
يقول فيكتور شيه، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو "آنبانج كانت تكتلا يرتبط بشكل واضح باتجاهات سياسية تختلف عن اتجاهات الرئيس تشي جينبينج".
بعد أسبوعين سرّب مصرفيون حملة المنظمين على الشركات الأربع الكُبرى وعاد وانج للظهور في وسائل الأعلام الحكومية بعد غياب طويل. انتقد الفساد في مشاريع تخفيف الفقر في جويتشو، حيث تملك شركة واندا مشروعاً فيها. الرسالة كانت واضحة - حان الوقت ليبدأ أصحاب المشاريع دق الأجراس والترحيب علناً بمزيد من "الإشراف" من قِبل الدولة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES