Author

كلنا ضحايا خطاب الإنكار والتكفير

|
أستاذ جامعي ـ السويد

كيف نصل إلى الحقيقة في عالم يحتله التعصب لما نحن عليه وإنكار أو أحيانا تكفير ما لدى الآخر.
وبدءا، أرجو الانتباه إلى أن مفهوم أو حتى ممارسة إنكار وتكفير ما لدى الآخر حالة إنسانية عامة وليست محصورة بفئة دينية أو مذهبية أو فكرية محددة. نعم قد تطفو على السطح لدى مجموعة محددة في زمن ومكان محددين، إلا أن الإنسانية برمتها تقع ضحية لها.
أين تكمن المشكلة إذا؟
بالنسبة لي كمحلل للخطاب ولغوي، أس المشكلة لا ينبع من مفهوم الإنكار أو التكفير، بل من عدم محاسبة كل من يستخدم خطابا ينكر أو يكفر فيه ما لدى الآخر.
عندما أنكر أو أكفر الآخر معناه أنني أراه على خطأ. وعندما ينكر أو يكفر الآخر ما لدي معناه أنه يراني على خطأ.
بمعنى آخر، هناك حقيقتان متناقضتان، كل واحدة منهما تدعي العصمة لنفسها. والحقيقة أو الواقع الاجتماعي يمثله الخطاب (اللغة) أفضل تمثيل. اللغة تعكس الحقيقة والحقيقة تتشكل ضمن الأطر الخطابية التي توفرها لنا اللغة.
يحضرني مثال من الغرب جرى وتجري بسببه ملاحقة وحذر وسجن ودفع غرامات باهظة من قبل مفكرين وأساتذة وفلاسفة كبار.
ليس بمقدور أي مفكر مهما علا شأنه ومقامه إنكار "المحرقة" حتى لفظيا. هكذا إنكار يعد جريمة يعاقب عليها القانون أشد عقوبة.
مجرد القول، يؤدي بصاحبه إلى مشاكل لا أول لها ولا آخر، رغم أن الشخص لم يعتد على أحد، أو يسرق مال أحد، أو يقتل أحدا، أو يقترف جريمة جنائية أو غيرها. كل ما قام به الشخص هو أنه عبر عن رأيه قولا أو كتابة.
هناك قوانين وتشريعات ومحاكم هي التي تبت في النهاية وتفرض العقوبة. بالطبع قد نتقاطع أو نختلف مع سن بعض القوانين، ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئا.
إضافة إلى ذلك، هناك دولة ونظام واجبه تطبيق التشريعات وتنفيذها، بغض النظر عن عدالتها أو إجحافها. هنا الدولة والنظام يقرران إن كان هناك إنكار أو تكفير أم لا.
إذا، الإنكار أو التكفير، كما شرحناه أعلاه، مسألة خطابية، أي أن الناس يعبرون عن آرائهم. هل نغمط حرية الشخص في إبداء رأيه عند وضعه في قفص "قل ولا تقل"؟
إن كان للقول أبعاد تصل إلى انتهاك حقوق الإنسان وتؤدي إلى اضطهاد الآخر وحرمانه من حقوقه الإنسانية المشروعة، عندئذ يصبح للقول مفعول السلاح.
وإن أطلق العنان لكل من هب ودب ليفرض مواقفه وميوله ومفاهيمه التي تنكر وتكفر الآخر دون ضوابط، لطغى الظلم والاضطهاد وكثر الضحايا من الأبرياء ولعمت الفوضى وحل الدمار.
الغرب عانى انفلات الخطاب. تكرار القول في إنكار وتكفير الآخر، حسب فلاسفة اللغة، يمثل الخطوة الأولى صوب تهييج المشاعر والتعصب وقد يصل بصاحبه إلى اقتراف العنف الذي في الغالب يكون ضحاياه من الأبرياء.
إنه لأمر صادم حقا أن ننكر أو نكفر ما لدى الآخر مع علمنا بما قد يكون لذلك من تبعات خطيرة. نحن نعلم أننا وحدنا مع ما نحمله من فكر وميل لا يصح ولا يستديم دون وجود الآخر المختلف.
لم ولن يكون بمقدور أي فكر أو ميل أن يسود العالم برمته؛ ليس العالم بل مجتمعا بمستوى دولة واحدة. والسبب واضح، لأن الفكر ذاته ما إن ينمو حتى يتشعب ويتفرع وبعدها تصبح كل شعبة ذات فكر مستقل إلى درجة أن الشعبة الواحدة من الفكر نفسه قد لا تقبل الأخرى.
وخطاب نكران وتكفير الآخر على أشده في الشرق الأوسط. ما يميزه هو انفلاته ودخوله أحيانا من أوسع الأبواب إلى دهاليز الإعلام.
حسنا تفعل الدول التي بدأت تضع ضوابط للخطاب تحاسب فيه كل قول تستشف منه رائحة نكران وتكفير الآخر وتشرع القوانين لذلك.
الحقيقة لا نحصل عليها بالنكران والتكفير. الحقيقة نحصل عليها من خلال تقديم النموذج الذي يقدم بعدا إنسانيا لخطابنا ولا يقبل أبدا انتهاك الحقوق الإنسانية الأساسية للآخر.
والحقيقة نحصل عليها عندما نحاور بعضنا ونواجه ما نراه خطأ بالتي هي أحسن وليس بنكران وتكفير ما لدى الآخر.

إنشرها