ثقافة وفنون

«الاضطراب اللغوي» .. زاوية جديدة لتناول الحدث

«الاضطراب اللغوي» .. زاوية جديدة لتناول الحدث

المنظومة اللغويّة جزء من المنظومات الكونيّة التي نظن أنّنا أحطنا بقوانينها ورسمنا حدود قواعدها نحوا وصرفا وتنظيرا لسانيّا وتمثيلا عرفانيّا بل وحتى تحليلا جينيّا. لكن يبدو أنّ نظريّة الفوضى "الكايوس" قد عصفت بهذه الحقائق كما عصفت بحقائق علميّة راسخة في مجالات أخرى.
فرغم نجاح العلم في الإحاطة بعديد الظواهر الكونيّة وتحليل نظام اشتغالها إلاّ أنّه لا يزال يقف عاجزا أمام بعض الظواهر التي تتسم بالفوضى والاضطراب، وفقا لورقة الباحثة المغربية ليلى العبيدي، مثل حركة الأمواج وتقلبات المناخ والزلازل، وذلك لأنّها تمثل الجانب المفاجئ والانقلابي من الطبيعة.
إلاّ أن تلك الصورة شرعت في التغيّر تدريجيّا في سبعينات القرن العشرين عندما همّت كوكبة من العلماء الأمريكيين والأوربيين بالاهتمام بأمر الاضطراب وفوضاه. وتالّفت تلك الكوكبة من علماء في الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والكيمياء الذين سعوا إلى الإمساك بالخيوط التي تجمع ظواهر الفوضى كلّها. وقد أنتجت تلك البحوث رؤى جديدة دلّت على إمكان تغيير النظرة إلى العالم الطبيعي بما في ذلك أشكال الغيوم وبروقها والشبكات المتداخلة من الشعيرات الدمويّة وتجمّعات النّجوم والمجرّات".
ههنا تبتدئ نظريّة الفوضى "الكايوس" في الحدود التي يتوقّف عندها العلم التقليدي ويعجز، وفي هذا الإطار يتنزّل البحث في الاضطراب اللغوي حيث تتم مساءلة الظواهر اللغويّة الخارجة عن حيّز "النظامي" ويكف البحث اللغوي عن إقصاء الشاذ منها والاستثنائيّ خارج أهداف الدرس لنتوقّف بالسؤال عند مواطن الاختلال في الخطاب قصد تمثّلها وتفهّم حيثيات حدوثها.
هي رؤية جديدة لهذا العالم اللغوي تحتلّ خلالها الفوضى صدارة الاهتمام فتطرح فرضيات أخرى توسّع من معرفتنا بأسرار الخطاب الذي طالما اعتبرناه منتظما.
فنحن لا نعرف عن اللغة أكثر من القواعد التي تمّ التواضع عليها في فروع النحو ولا نتناولها بالتحليل إلا من خلال مناهج لسانيّة معياريّة تساءل الخطاب داخل مربّع القاعدة وتقصي الاضطراب على تخوم الهامش، فلا ترى فيه ضربا من ضروب التفاعل الطبيعيّ في هذا العالم اللغوي الحيّ. إنّ ما ندركه عن اللغة وأسرار اشتغالها في حيّزها العرفانيّ أقلّ بكثير ممّا تنبئ به الإشكاليات المطروحة بالنظر في ظاهرة اضطرابها.
فهل اللغة التلقائيّة الصادرة عنّا نظاميّة في الأصل أم أنّها تعبير إنساني حر يتشكّل وفقا لخصوصيّة ظروفه، لكنّنا نجتهد لحصره في محاولة للسيطرة عليه وادعاء فهم قوانينه رغم أنّها لا تزال تدهشنا بإبداعيّة خلقها؟
وهل هذه الفوضى التي يصنعها الاضطراب اللغوي لعوامل مرحليّة أو نمائيّة أو لحوادث طارئة تمثل خروجا عن النظام أم أنّ ما تمّ التوصّل إليه من قوانين لغويّة في الأصل ليس إلاّ جزءا من العالم اللغوي الذي يتسع فيه المجال لأشكال التعبير الفوضوي عند توافر الظروف الباعثة على ذلك؟ ماذا لو أنّ اللغة تعبير طبيعيّ أوسع من الحدود التي يضبطها النظام اللغوي؟ ماذا لو أنّ بعضا من اللغة ينفلت عن ضبط النّحو، فهل يخرج عن أن يكون لغة؟
لقد توصّل أرباب نظريّة الفوضى إلى أنّ العجز عن توقع مكان الإعصار وزمانه رغم امتلاك جملة من المعطيات المنبئة بحدوثه يعود إلى ارتباط الظواهر الطبيعيّة بأدق التفاصيل والجزئيات المتصلة بظروف نشأتها حتى ذهبوا في مقولة شهيرة إلى أنّ أعتى الأعاصير في شمال الأرض تتأثّر بـ "رفرفة جناح فراشة" في جنوبها.
فإذا كانت اللغة هي الأخرى ظاهرة طبيعيّة تتأثّر بأدق الحيثيات الحافة بظروف إنجازها فلا غرابة أن يظل للاضطراب مجال يذكرنا بحقيقة عجزنا عن الإحاطة التامة بكل القوانين والعوامل المساهمة في تشكيل الخطاب على ذلك النحو المخصوص سواء أكان مطابقا للنظام أو مقاربا له أو خارجا عنه.
هذا المبحث لا نزال نجهله ولا نعرف عنه أكثر ممّا أنبأت به ملاحظات التخوم والهوامش. من هنا تتأكّد أهميّة البحث في الاضطراب اللغوي لا باعتباره استثناء عن النّظام بل من حيث هو زاوية جديدة لتناول الحدث اللغوي في تشكلاته الطبيعيّة الحرة النابعة من خصوصيّة ظروفه بعيدا عن الأحكام المعياريّة. فسواء أكان الاضطراب "انزياحا" شعريا أم كان خطأ مقصودا أم عارضا من عوارض الاضطرابات اللغويّة المرحليّة أو المرضيّة فإنّ النظم اللغويّة تكون قد خرجت عن حالة الاستقرار والثبات إلى ضرب من الحركيّة لها في سياقاتها وظروف تبلورها سبل للتأويل.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون