ثقافة وفنون

قرية ذي عين .. تراث وطني شامخ منذ 4 قرون

قرية ذي عين .. تراث وطني شامخ منذ 4 قرون

زيارة منطقة الباحة متعة بحد ذاتها، أما زيارة قرية ذي عين الأثرية غربي الباحة فهي أكثر متعة ومذاقا مختلفا، فهي تعد متحفاً مفتوحاً بكل ما تحمل الكلمة من معان، تعود لحضارة ضاربة في القدم تمتد لأكثر من أربعمائة عام.
صرح معماري فريد، تختزن حجارته في ذاكرتها أربعة قرون من الزمان، وتملك مقومات الجمال والطبيعة الخلابة، وشلالات عذبة تتدفق بهدوء حول بيوتها، هي كنوز أثرية لا تقدر بثمن، تقف شامخة على جبال ضخمة، وترمز إلى الأصالة والتاريخ.

شتاء معتدل 

تقع قرية ذي عين الأثرية عند منحدر طريق عقبة الملك فهد، الرابط بين الباحة والمخواة في تهامة، على مسافة نحو 24 كيلو مترًا على يسار المتجه من مدينة الباحة، ونحو 15 كيلو مترًا عن محافظة المخواة، ويتجاوز عدد سكانها الـ370 ألف نسمة يقطنون ما تسمى "القرية الجديدة"، التي انتقل إليها أهالي القرية في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي.
ترتفع القرية الأثرية نحو ألفي متر فوق سطح البحر، وهو ما يجعلها عرضة للأمطار الغزيرة صيفـًا، أما شتاؤها فمعتدل، ولا يخلو أيضاً من الأمطار المتوسطة، ما يجعلها بيئة ناجحة للزراعة، ومكاناً مناسباً للسياحة.
وعودة إلى تاريخ القرية، فإن قرية ذي عين عانت من الغزوات القبلية قبل عهد الملك المؤسس عبد العزيز طيب الله ثراه، ويقال إن بدايتها كانت عندما همّت ثلاث نساء ببناء مسكن لهن في الجبل، ومزرعة بسيطة يقتتن عليها أسفل الجبل، تعيشهن وتؤمن لهن قوتهن اليومي، لتدب فيها الحياة وتكثر البيوت والمنازل مع ازدياد أعداد سكانها.
بينما تعود تسمية قرية ذي عين بهذا الاسم، إلى وجود عين ماء أسفل سفح الجبل الذي بنيت عليه القرية، تتميز بمياه الوفيرة والدائمة، التي لا تنضب بإذن الله، باردة صيفاً وحارة شتاءً، مما جعل الكثير من الجيولوجيين يفدون لدراسة هذه العين، دون أن يتوصلوا إلى نتيجة.
أما أكثر ما يلفت الأنظار إلى هذه القرية إضافة إلى جوها الرائع، ونبعها الوفير، فهو التصميم الهندسي وطرازها العمراني المتميز، كونها بنيت في مكان مرتفع ( نحو كيلو مترين فوق سطح البحر) على تلة بيضاء من المرمر، بشكل يشبه القلعة الحربية، توجد فيها حصون منيعة، مما يعطيها ميزة دفاعية ضد عمليات الغزو والغارات والمعارك الضارية التي كانت تدور في أزمان بعيدة، كما أن ذلك يفيد سكان القرية لمراقبة مزارعهم بكل سهولة ويسر.

طراز ثقافي 

من مسجد صغير يتوسط القرية، و31 بيتاً شـكلت من أحجار "المداميك" تتكون "ذي عين"، حيث سقفت أسطحها بأشجار العرعر القوية وأشجار السدر، ووضعت فوق هذه الأشجار حجارة عريضة تسمى "الفروش"، لتغطى بعد ذلك بالطين الذي يسد مسامات الحجارة وشقوقها، وتتميز تلك البيوت في أغلبها بالنقوش والزخارف والكتابات التي تزينها، وتضم معظم غرفها عمود يسمى "الزافر"، يوضع لحمل السقف، ويراوح سمك جدرانها ما بين 70 و 90 سنتيمترا، ويطلق على البيوت أعلى الجبل "المعلاة"، أما التي بالقرب من المزارع وسفح الجبل فيطلق عليها "الدار السفلى"، كما أن لكل بيت من البيوت مسمى، منها على سبيل المثال: العباد، الغراملة، البهاشية، اليحمد، بيت الاشنين وغيرها من المسميات، ولا يوجد للقرية سوى مدخل واحد، لتأمين القرية من هجوم الأعداء.
وتتزين شرفات البيوت بأحجار المرو "الكوارتز" على شكل مثلثات متراصة، أما الأبواب والنوافذ فهي مزخرفة بأشكال هندسية عبارة عن مثلثات ومربعات ودوائر وما إلى ذلك من الأشكال النجمية المنحوتة على دفتي الأبواب، والنوافذ إما نحتاً بارزاً أو غائراً، بينما أعالي بعض الحصون تحتوي على شريط من المرو الأبيض كعنصر زخرفي وجمالي رائع، وتغطى جدران المباني بطبقة جصية خفيفة، وطرقها مرصوفة بالحجارة، ومملوءة فراغاتها بالتراب.

أحجار "عجيبة"

لروعة أحجارها وتميزها، يذكر أنه في أيام البلاط العثماني، أرسل القائد التركي الذي دخلها رسالة إلى بابه العالي وأرفقها بثلاث قطع من رخامها قائلاً: "من هذا الحجر العجيب يبني أهل هذه القرية منازلهم"، في إشارة إلى روعة هذه الحجارة، وانبهار ذلك القائد التركي بجمالها، حيث لا يزال السياح والزوار يتعجبون من كيفية بنائها، لتمثل شاهداً على قوة الأجداد، الذين استخدموا في بنائها الجمال لنقل الحجارة، وأحياناً كانت تنقل على ظهور الرجال من السفوح المجاورة.
ويراوح ارتفاع بيوت القرية ما بين 3 و 7 طوابق، بنيت جميعها من الحجارة المحيطة بالمنطقة، وهي متلاصقة ومتراصة، تشكل بيئة اجتماعية متماسكة ومترابطة، كما تربط بين بيوتها أزقة وطرق وممرات وأروقة يتباين عرضها بين 3 و 5 أمتار. وعادة ما يتكون البيت في القرية من أربعة أدوار في المتوسط، الدور الأرضي منها مخصص للمواشي عادة، فيما يخصص الدور الثاني لتخزين الأمتعة والأدوات الزراعية، أما الدوران الثالث والرابع فهما مخصصان لسكن العائلة، وتخزن المحاصيل والحبوب في أمكنة أخرى تسمى "السفل"، بحيث يكون لكل عائلة مخزن معروف، أما السطح، فيكون المتنفس الذي يكون فيه الالتقاء بين أفراد العائلة وبعض الجيران، وفي جميع جهاته توجد جلسات، وفي أحيان أخرى توجد على السطح غرفة بمثابة جلسة استراحة، تستخدم في فصل الصيف لنوم النساء والأطفال، أما الرجال فينامون على الجلسات في الهواء الطلق تخفيفاً من وطأة الحر، وذلك لكون الطقس مناسباً، كما توجد على الأسطح أحواض زراعية لبعض النباتات الصغيرة مثل الريحان والبرك، ومصلى للصلاة يرتفع عن السطح بنحو 50 سنتيمتراً، عليه سجادة صلاة كبيرة لأداء الصلاة.

شلالات ومصبات

خارج قرية ذي عين، توجد منطقة منبسطة تسمى "العيينة"، الطريق إليها مرصوفة بالحجارة، وهي ساحة تعتبر نقطة تجمع لأهالي القرية لإقامة الحفلات الشعبية كالأفراح والأعياد، والفعاليات والمناسبات المختلفة، وترتبط بمنبع ماء من العين في الجبل، يستقي منها الأهالي، وتستخدم لري المزروعات.
ومن المثير للدهشة في هذه القرية الساحرة أن بيوتها تترابط فيما بينها عبر ممرات داخل البيوت نفسها، حيث يستطيع الزائر أن يزور كل بيوت القرية دون أن يخرج من أي منها.
ولعين الماء أسفل سفح جبل القرية مصبات، تشبه الشلالات، يسمي أهل المنطقة كل مصب باسم، مثل مصب "اللواء" وغيره، وهناك مواقع أخرى جميلة ورائعة، يسحرك فيها انسياب الماء وجريانه، مثل موقع "خرار"، وحول القرية جبال عالية تكسوها الخضرة، تحتضن أشجارا ونخيلا وأعشابا متنوعة، وقد اعتمد السكان الأصليون للقرية قديمـا نظامـا لتقسيم مياه العين بحيث تصل إلى جميع المزارع والبساتين حسب نوع وحجم المزرعة، ويعرف بنظام "الشرب".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون