ثقافة وفنون

التحف .. «سوق سوداء» عملتها بياض الماضي

التحف .. «سوق سوداء» عملتها بياض الماضي

تأسر أنفك رائحة غريبة، لعلها رائحة التاريخ، عند ولوجك أحد المحال المتناثرة بشكل عشوائي في بعض المدن في الأقطار العربية. التاريخ هنا حاضر بكل تجلياته، لدرجة استطاع معها إيقاف سريان بعض القواعد المألوفة في الحياة اليومية. فالمبدأ الأساسي في قوانين الاستهلاك الحالية هو ارتباط قيمة المنتج بحداثة زمن الإنتاج، وتعلق منفعة الشيء الحدية بمدى الرغبة فيه، وخضوع الثمن عادة لقانون العرض والطلب.. وهلم جرا من القوانين التي تصبح بلا معنى في عوالم التحف الفنية النادرة والقديمة.
تماثيل نحاسية عتيقة أو شمعدانات، تماثيل برونزية أو قطع نقدية قديمة تعود إلى حقب تاريخية، كتب ومخطوطات، صور فوتوغرافية، لوحات فنية، أوان ومعدات، وأحيانا قنينات زجاجية لمشروبات غازية قديمة، أشياء لا يعرف قيمتها سوى هواة جمع التحف وأصحاب محال التحف الفنية. أشياء تبدو بلا أهمية في عين الإنسان العادي، لكن قيمتها في أعين هواة جمع التحف وتجار بيعها أعلى بكثير من مساومات منطق السوق، لذا يبذل هؤلاء الغالي والنفيس من أجل امتلاكها وإدخالها في نطاق ملكيتهم وبسط سيطرتهم عليها.
إن الهاجس الأكبر الذي يدفع عشاق التحف إلى اقتنائها ليس الزينة والجمال، إنما هو زمن صنعها ومهارة الحرفي المجهول الذي أبى إلا أن يحولها إلى مستودع للذاكرة والتاريخ. وعليه تكون التحف شاهدة على زمن خبا دون أن تضيع ملامحه، ما أدى بقيمتها السلعية مع توالي الأيام إلى الارتفاع، لتغدو أثرا فنيا ثمينا يجد مكانه في موقع منزلي أو قاعة عرض أو خزانة وطنية أو متحف عمومي؛ مذكرا بحضارات أنتجت نماذج بديعة في الفنون والآداب والجمال.
أضحى لهذه التجارة أصحابها وهواتها، بين باعة متخصصين وهواة محترفين لجمع التحف الفنية، إما بغرض تزيين قصورهم وإقامتهم الفاخرة، أو فقط من أجل المتعة الشخصية والإشباع الذاتي. هواية مكلفة، تتطلب من ممارسيها وتجارها على السواء ثقافة تاريخية مهمة، لتقييم التحف الفنية وتحديد قيمتها التاريخية والمادية، وكذا تمييز الحقيقية منها والمزورة.
يزداد الأمر تعقيدا وتشابكا حين نعرف تنوع العناصر التي تشكل جوهر هذه الكنوز الأثرية والتحف الفنية، حيث نجد الساعات "الجدارية والمائية والرملية"، الأوراق والقطع النقدية، الطوابع البريدية، التماثيل والأحجار، الأثاث المنزلي، الحلي والحلل... يضاف إليها المعطى الزمني الذي يعتبر محددا جوهريا في هذا المجال، فكلما غرقت التحفة في التاريخ ازدادت قيمتها الرمزية والمادية.
تاريخا وقع اختلاف كبير في تاريخ بداية الاهتمام بالتحف الفنية النادرة، لكن الراجح أن تجميع الأثريات بدأ هواية برجوازية، في البداية على عهد نابليون، الذي كان يعشق الديكورات الرومانية. تدريجيا أصبح تكديس الخردوات المغبرة، وألواح الفنانين الكبار والمخطوطات الثمينة هواية حديثة لهدر الوقت وتمضيته في أوروبا، ما جعل محال بيع الأشياء المستعملة تزدهر. وحقق تجار التحف الأثرية ثروات طائلة من وراء هذه البيوعات النوعية.
ويبقى المؤكد أن الاهتمام بالتحف عائد إلى رغبة الفرد في استعادة نزر قليل من وهج العمل "المهارة" اليدوي الأصيل بعد سيادة نظام الإنتاج الجماعي وسيطرة الآلة، وإغراق الأسواق بمنتجات كثيرة لا تتميز بالفرادة. بصيغة أخرى نقول إن الأمر كان نهاية نمط الإنتاج الفرداني؛ بما يميزه من لمسة خاصة وفريدة إلى أسلوب جديد يقوم على الكم.
صحيح أن الاهتمام بهذه الكنوز بدأ على سبيل الهواية فقط، عند أشخاص يسكنهم هاجس البحث عن هذه التحف، للاحتفاظ بها في إحدى حجراتهم، ومنهم من أقام ما يشبه متحفا صغيرا في بيته. لكن الإقبال عليها حولها سريعا إلى تجارة مربحة بسبب ضعف المنافسة والاحتكار، غير أن الوضع لن يبقى كذلك بسبب دخول شبكات عابر للبلدان متخصصة في السرقة وتزوير التحف الفنية، كان للعالم العربي منها النصيب الأكبر بسبب غنى وكثرة ما يضم من أصناف شتى في هذه الذخائر.
شيئا فشيئا تحول تهريب الآثار والاتجار في التحف النادرة، إلى ما يشبه الاتجار في المخدرات والأدوية ربما السلاح، بالنظر إلى الأرباح المالية التي تتأتى منها. وكان وراء ذلك عوامل عدة في مقدمتها؛ التبخيس المتعمد لجزء كبير من تاريخنا والتنكر له أحيانا، مضاف إليه قلة الوعي برمزية وقيمة الأشياء التي توضع بين أيدي هذه العصابات بأبخس الأثمان.
في ذات السياق يقدم الصحافي الفرنسي ناتانيال هرسبرج، مؤلف كتاب "المتاحف الشفافة" قائمة بأهم التحف التي سرقت في الثلاثين سنة الماضية. 120 قطعة من جميع أنحاء العالم لا تزال مجهولة المصير إلى اليوم. وهي لا تخص اللوحات، بل كذلك التحف الصغيرة والتماثيل والقطع المعدنية والمخطوطات، وحتى الأثاث الثمين.
استنادا إلى المصدر ذاته تسجل فرنسا أعلى نسبة سرقات للتحف الفنية في أوروبا، متبوعة بإيطاليا. وعدا هذه السرقات التي تكتب عنها وسائل الإعلام لأنها تخص متاحف معروفة وفنانين كبارا فإن الحوادث التي تسجلها مصالح الشرطة المختصة تفوق ذلك بكثير. فقد تمّ عام 2011 تسجيل أكثر من 24 سرقة في متاحف فرنسا، والقصور بلغ العدد 86 سرقة، بينما سجلت الكنائس ودورها 245 حالة سرقة، و61 في المعارض.
أخيرا نشير إلى أن هذه الأرقام لا تمثل شيئا أمام ما يجري في عديد من البلدان في العالمين العربي والإسلامي، لقلة الرقابة وغياب الاهتمام بجزء من التاريخ والذاكرة الإنسانية. فالتحقيقات كشفت أن أفغانستان على سبيل المثال فقدت 70 في المائة من التراث الفني لها، فيما سُرق من العراق أزيد من 15 ألف قطعة أثرية إثر دخول القوات الأمريكية إليه. لتلتحق ـ ويا للأسف ـ بآلاف من المخطوطات العربية المنهوبة التي سلبت منا في فترة ضعف وهوان وتفريط، أو قهرا وجبرا وإكراها ولا نستطيع استردادها اليوم، رغم أن التاريخ والجغرفيا ولسانها أيضا شهود على ملكيتنا لها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون