Author

مصارف هاربة من مدينة الأموال

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"باريس تبقى دائما وأبدا فكرة جيدة" أودري هيبورن ممثلة وناشطة اجتماعية بريطانية راحلة وسط الفوضى الحقيقية على الساحة السياسية البريطانية، وهشاشة الحكومة والحزب الأكبر الحاكم فيها، والتناحر بين المسؤولين البريطانيين أنفسهم، وضعف رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على كل المستويات، وتأكيدات تلو الأخرى من الجانب الأوروبي بألا تفكر لندن في مفاوضات خروج سهلة من الاتحاد، في ظل هذه الأجواء المضطربة غير الحاسمة كلها، تفقد لندن شيئا فشيئا وجهها المصرفي التاريخي الكبير. هذه المدينة لا توفر في الواقع إلا الخدمات المالية وعقارات وبعض المعالم التراثية، وتمد المملكة المتحدة بأكثر من 22 في المائة من ناتجها الإجمالي المحلي، ليس عن طريق صناعة السيارات (مثلا) ولا البتروكيماويات ولا تصنيع السفن والناقلات العملاقة، ولا إنتاج الطاقة. لا شيء إلا الخدمات المالية الهائلة المتنوعة، ناهيك عن المقاصة في العاصمة التي يصل حراكها اليومي إلى 2.1 تريليون دولار. بينما تمثل عمليات المقاصة الخاصة باليورو حجر الزاوية. مفاوضات الانفصال الفعلية التي بدأت الشهر الماضي تجري في أجواء من الكآبة وعدم وضوح الرؤية، وتمسك الطرف الأوروبي بصورة قوية بمواقفه، مع اهتزازات واضحة في الموقف البريطاني. لكن ما يجري بصورة واضحة، تبقى العمليات الخاصة بانتقال المصارف الكبرى من لندن إلى وجهات أوروبية مختلفة، وإن كانت باريس هي الوجهة الأكثر احتمالا حتى الآن. صحيح أن أيا من المصارف لم ينتقل بعد، لكن التحضيرات تجري بالفعل على الجوانب الإجرائية واللوجستية وغيرها. فعمليات الانتقال هذه لا تتم بسرعة، وهي تتطلب تحضيرات واسعة، تضمن انتقالات سلسة لا تؤثر في أدائها. وهذا ما تفعله المصارف المشار إليها "بما فيها المصارف الأمريكية"، تدرس الاحتمالات كلها، لكن المؤكد يبقى أنها ستخرج من لندن إلى الأبد. مع وصول إيمانويل ماكرون إلى الحكم في فرنسا، كانت أولى الخطوات التي قام بها، العمل على تعديل القوانين العمالية والإجراءات الضريبية الخاصة بالشركات. والسبب واضح بالطبع، يعود إلى جعل فرنسا بشكل عام وباريس على وجه الخصوص حاضنة للمصارف والمؤسسات المالية والشركات وغيرها من تلك التي ترغب في مغادرة بريطانيا. وتخشى المؤسسات المالية وغيرها في الواقع القوانين الفرنسية الصارمة حيالها التي تصب في مصلحة الموظفين والعمال أكثر، ما يجعلها غير مرغوبة من جانب هذه الجهات. يضاف إلى ذلك، أن ضرائب الشركات في فرنسا تعد الأعلى، مقارنة ببقية البلدان الأوروبية الأخرى، وحتى على المستوى العالمي، وهذا أيضا عامل طارد من الناحية الاستثمارية. الأوقات تغيرت، وتبدلت في الواقع بصورة دراماتيكية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبحث المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين ومؤسسات إدارة الأصول عن مكان بديل عن لندن. اللافت أن المصارف البريطانية نفسها تبحث عن مركز ثان لها في أعقاب خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. فقد أعلن مصرف "باركليز" أنه سيؤسس مركزا ثانيا في العاصمة الإيرلندية دبلن، إلى جانب سلسلة من البيانات الصادرة عن مصارف بريطانيا تظهر رغبتها في نقل بعض أعمالها إلى خارج البلاد. رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب كان واضحا بالإعلان عن أن الحكومة "عازمة على جعل باريس أكثر تنافسية وجاذبية". وهذا يعني أن الحكومة ستلغي أعلى فئة من الضرائب على رواتب المؤسسات التي لا تدفع ضريبة القيمة المضافة. فرانكفورت وباريس وأمستردام ودبلن وفيينا ولكسمبورج وغيرها من العواصم والمدن الأوروبية كلها مهيأة لاستقطاب المؤسسات الهاربة من عاصمة المال لندن، بما فيها شركات الطيران وغيرها. لكن تبقى العاصمة الفرنسية الأكثر جاذبية ليس من الناحية التشريعية (التي من المتوقع أن تتغير لمصلحة الشركات والمؤسسات)، بل من ناحية الحياة الاجتماعية العامة. وهي المفضلة قياسا ببقية المدن الأخرى بعد لندن التي تتصدر حتى بمناخها المتقلب (غير الصديق) قائمة المدن التي يتدافع الناس إليها، ويرغبون في العيش فيها. لكن هذه الأخيرة باتت طاردة للأعمال لمجرد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وخسارة ميزات الحدود المفتوحة مع 27 دولة. ليس أمام لندن مساحة زمنية طويلة للحفاظ على ما أمكن لها من هذه المؤسسات. الأعمال لا تهتم بالموقف السياسي بقدر ما تهتم بالمكاسب التي ستحققها في هذه البقعة الجغرافية أو تلك. ويبدو الرئيس الفرنسي القوي ماضيا إلى الأمام لتلقف "الفارين" من بريطانيا، وسن تشريعات جديدة وتلطيف تشريعات أخرى. فالفرصة تاريخية أمام باريس. وهي لا تتنافس اليوم مع لندن، لأن العاصمة البريطانية أضعف من أن تكون منافسا. باريس (وغيرها من المدن الأوروبية الكبرى) تتنافس مع نفسها من أجل "غنائم" لندن. مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة كانت تتلقف "الغنائم" تلو الأخرى حتى وقت قريب، سواء قامت بتسويق نفسها لتحقيق ذلك، أم لم تقم. إنه التاريخ مجددا بين مدينتين. وهو الآن تاريخ يصنع نفسه آنيا، ونتائجه ستبدو في الأفق القريب.. القريب جدا.
إنشرها