ثقافة وفنون

تشينوا أتشيبي .. كاتب تنهار في صحبته جدران السجن

تشينوا أتشيبي .. كاتب تنهار في صحبته جدران السجن

يجود التاريخ من حين لآخر بتجارب حياتية لأشخاص يكسرون القواعد، ويخرجون عن العادي والمألوف. ربما يكون هذا حال النيجيري تشينوا أتشيبي Chinua Achebe الملقب بعميد الرواية الإفريقية الحديثة. لم تتعد إبداعاته في صنف الرواية أصابع اليد الواحدة؛ وجاءت عناوينها تباعا: "الأشياء تتداعى" (1958)، "لم يعد سهلا" (1960)، "سهم الله" (1964)، "رجل من الشعب" (1966)، "كثبان من السافانا" (1984).
خمس أعمال روايات ملحمية كانت كافية لأتشيبي ليكون من مؤسسي الأدب الإفريقي الحديث، بل ويحول إلى رمز ملهم لجيل كامل من الكتاب، ممن خرجوا للعالم بعده بأصوات أصيلة من العمق الإفريقي لا يمكن تجاهلها. لقد كان الراحل أول من تجرأ على فتح باب العالمية للأدب الإفريقي المكتوب من قِبل أهل الدار، بعدما احتكره بالنيابة أدباء القوة الاستعمارية؛ ممن يطوعون مضامينه وفق ما تهوى أنفسهم. وقد أشاد بيان الاتحاد الإفريقي الصادر عقب وفاته بتلك الجرأة، حين أكد أن الرجل «ترك تراثا فكريا لا يُقدر بثمن، ويجعلنا دائما فخورين بأننا أفارقة، وسيرشدنا في مساعينا لجعل إفريقيا قارة المستقبل».
كانت رواية "الأشياء تتداعى" باكورة أعمال أتشيبي التي شكلت قنطرة عبوره نحو العالمية، التي انبثقت في سياق اقتناع الرجل الراسخ بالحكمة القائلة: «حتى يأتي اليوم الذي يصير فيه للأسود مؤرخون، سيمجد تاريخ الصيد أفعال الصياد»؛ بذلك يختار لنفسه أن يكون المؤرخ الأول، ويعيد تقديم الأحداث للعالم من موقعه بشكل لم ترو به من قبل. يذكر أن عنوان الرواية استلهم من قصيدة "الحضور التالي" للشاعر الإيرلندي الشهير ويليام بتلر ييتس William Butler Yeats، التي قال فيها: «الأشياء تنهار/ والمركز غير قادر على الصمود/ هي مجرد فوضى تعم العالم».
 مزج الأديب في هذه الرواية التي تُرجمت إلى أزيد من 50 لغة، وبيعت فيها الملايين من النسخ، التراث الشعبي النيجيري بمختلف ألوان الحياة الاجتماعية، مضيفا إليه تمزقاته الداخلية بين تربيته الإنجيلية وبين ميراث أجداده من حضارة الإيبو، إلى جانب حضور قوي لمختلف صور الحالة الاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية النيجيرية قبل وبعد الاستعمار الإنجليزي.
كانت الرواية بمثابة رد اعتبار للإنسان الإفريقي، إذ درج أدباء غربيون كثر أمثال جوزيف كونراد وجيمس كاري... وآخرون على وصفه بـ "الكائن المتوحش البدائي" و"الروح غير المتطورة". إنها رواية من أجل الوعي بالآخر، وإسقاط كل الأحكام والتحيزات المسبقة بأسلوب ساخر، انتهك فيه المبدع لغة المستعمر بشكل يدعو للتأمل حين مزجها بلغة قومه، فمنح بذلك المتن الروائي الإفريقي خصوصية المكان والشخوص والأحداث... سعيا بذلك إلى إعطاء الآخر؛ الغربي تحديدا، صورة أقرب للواقع الذي لا يراه أو لم يتمكن من رؤيته.
لم يبق الأديب أسير الأضواء المسلطة عليه؛ بسبب نقده الأقلام الغربية الاستعمارية العنصرية ضد إفريقيا، حيث تحول بعد الاستقلال إلى مواكبة ما يجري في بلاده من مشاكل على غرار دول إفريقيا الحديثة. وقد صور لنا الفساد السياسي الذي ساد البلاد، في روايته الرائعة "رجل من الشعب"، التي تزامن نشرها مع وقوع انقلاب عسكري أطاح بالقيادة السياسية القديمة وحاشيتها. ما أثار الشكوك حول علاقة الرجل بالأحداث، لدرجة أن بعض الضباط العسكريين لا يستبعدون أن يكون له دور في الانقلاب، لكن لم يكن لديهم أي دليل لاتهام الرجل، لأن الأمر ببساطة مجرد حدس لمثقف مهوم بقضايا وطن.
قد لا تكون لأب الأدب الإفريقي أياد في اللعبة السياسية الدائرة في بلاده، لكنه مهتم ومتابع لما يجري هناك، وأكبر دليل على ذلك رفضه عام 2004 تقلد اللقب الوطني "قائد الجمهورية الاتحادية" من الرئيس أولوسيجون أوباسانجو الذي حول أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان إلى إقطاعية مفلسة تعمها الفوضى بحسب أتشيبي. وقد تكررت تلك المحاولة مع الرئيس جودلاك جوناثان أحد المعجبين به؛ ممن يقولون إنه «تعلم من أعماله دورسا لا تمحى». غير أن الراحل رفض العرض مجددا، حتى وإن كانت انتخابات الرئيس الـ 14 للبلاد أنزه انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد، وعلق على ذلك بقوله: «أسباب رفض هذا العرض في المرة الأولى لم تعالج. من غير المناسب أن تقدم لي مرة أخرى. ومن ثم ينبغي أن أرفض العرض مع الأسف مرة أخرى».
ما أكثر المواقف الإنسانية التي تحسب للراحل في مساره النضالي الطويل، توفي عن عمر يناهز 82 سنة، في سبيل حرية الإنسان مطلق الإنسان، وهو ما جعله يسخر من أحد رموز الشعر في فرنسا في القرن الـ 19 بقوله: «حين ذهب آرثر رامبو إلى إثيوبيا وعاد بالرقيق لم يعد لكتابة الشعر بعدها، إذ لا يمكن أن تجتمع كتابة الشعر وتجارة الرقيق في قلب واحد".
إن الأعمال الإبداعية للراحل وبالخصوص الروائية والقصصية لم تكن فقط انتصارا لإفريقيا، ولا للأدب الإفريقي، ولا للحضارات البدائية المندثرة منها أو التي تقاوم. إنها باختصار انتصار للأدب بشكل مطلق، ربما للإنسانية كذلك. نعم إنه أديب يعيش معه قارئه الانتصار للإنسان حتى في أقسى اللحظات، لدرجة أن زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا علق على أعمال أتشيبي التي رافقته في السجن بقوله: «كاتب في صحبته انهارت جدران السجن».

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون