default Author

تركيز التنمية في المناطق.. هل هو الأجدى؟

|
في الخمسينيات من القرن الماضي، بدأت الدول الغربية تهتم بتخطيط التنمية المكانية في مدنها وأقاليمها. فقد كانت في ذلك الوقت تجهز لاقتصاد ما بعد عصر الثورة الصناعية من خلال التحول إلى نموذج تنموي يتماشى مع التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل حدود تلك الدول وخارجها. وفي الفترة بين 1960 و1980، كان التركيز منصبا على معالجة الفوارق التنموية بين المدن والقرى ونشر التنمية في المناطق عن طريق توزيع الخدمات ومشاريع البنى التحتية لتغطي مساحات شاسعة من المراكز الحضرية والريفية. وقد تجلى ذلك في المخططات التنموية للمناطق، حيث تم التعبير عن فكر الانتشار التنموي من خلال الترتيب التدريجي للمدن والقرى (مراكز النمو) تبعا لأحجامها ومعدلات النمو السكاني المستقبلي. ومن ثم، تم تحديد أولويات التنمية من خلال برامج تمتد لفترات زمنية قصيرة وطويلة المدى. وفي الواقع، كان السبب الرئيس لقبول وانتشار هذا النمط من التخطيط الذي يطلق عليه الخبراء "التنمية المبعثرة" هو الاعتقاد السائد بأن هذا النموذج يحقق العدالة في توزيع الخدمات والفرص الاقتصادية على المدن والقرى كافة. وفيما بعد عام 1990، كان لدورات النمو والركود الاقتصادي العالمي دور في ظهور نموذج آخر لتنمية المناطق يدعى نموذج التنمية المركزة، الذي يعتمد في أسلوبه على تركيز الأنشطة الاقتصادية والاستثمارات وتطوير وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في المدن الرئيسة الكبرى وضواحيها. وقد كان لهذا التوجه دور مؤثر في بروز فكرة المدينة الإقليمية العالمية Global City-Region التي يركز تخطيطها على تهيئة بيئة عمرانية جاذبة للاستثمارات العالمية في مجالات اقتصادية متخصصة. وتتنافس هذه المدن على تأهيل البنى التحتية والخدمات لتحفز الشركات العالمية ورؤوس الأموال والمبتكرين ورواد الأعمال على اختيارها، لتكون مقرا ينمي ابتكاراتهم واستثماراتهم ويلبي احتياجاتهم المجتمعية والترويحية. كما تعمد هذه المدن لتقوية العلاقات الاقتصادية بين أجهزتها الحكومية والشركات والمؤسسات التعليمية، وذلك من أجل إيجاد منظومة مؤسسية للابتكار والنمو تساعد على تعزيز البيئة الاستثمارية وجذب مزيد من الفرص الاقتصادية لإقليم المدينة. وفي هذا المجال، تتبادر إلى ذهني العلاقة المؤسسية القوية التي تربط بين مدينة نيويورك وشركاتها المالية العملاقة. ففي عام 2003، تقدمت شركة جولدمان ساكس بطلب تخفيف الضريبة البلدية لها حيث إن مدينة كبرى أخرى في الولايات المتحدة عرضت على الشركة الأم الانتقال إليها دون دفع أية ضرائب. وقد كان رد عمدة نيويورك أن تقدم للشركة بعرض للإعفاء من الضريبة البلدية لعشر سنوات مقبلة. وفي حقيقة الأمر، يعي عمدة نيويورك الثقل العالمي لشركة جولدمان ساكس، كما يعلم أن انتقالها إلى مدينة أخرى يعني انتقال أكثر من عشرة آلاف فرصة عمل وأكثر من عشرة آلاف من العقول الاستثمارية والمواهب البشرية ممن يدفعون ضرائب بلدية إلى خارج المدينة. وعن نمط التنمية المركزة، فقد أشار تقرير البنك الدولي الصادر في عام 2009 إلى أن تركيز التنمية في المدن الكبرى وضواحيها يعمل على إيجاد النطاق الاقتصادي الملائم Economies of scale لتوزيع الخدمات والبنى التحتية، كما يزيد من معدل التنافسية الاقتصادية لديها. وفي الوقت ذاته، يشير التقرير إلى أن بعثرة الأنشطة الاقتصادية على مساحات شاسعة من المناطق يؤدي إلى إهدار في الموارد المالية للدول ويقلل من فرص النمو الاقتصادي المركز الذي يعد عاملا مهما في قياس التنافسية العالمية للمدن والمناطق. وفي تقرير آخر صادر عن منظمة OECD في عام 2010، أكدت المنظمة أنه يجب على الحكومات أن تقوم بدراسة الخصائص والمقومات الاقتصادية والمؤسسية والمكانية في مدنها الكبرى وضواحيها، وأن تستغل ذلك ما أمكن لتوفير مزيد من الفرص الاقتصادية. كما دعت إلى تركيز استثمارات البنية التحتية وتطوير بيئة الأعمال والمنظومة المعرفية والتقنية بما يزيد من معدل التنافسية العالمية لها. في نهاية المقال، أود تأكيد أن مدننا الكبرى وضواحيها تمتلك عديدا من المقومات والمزايا النسبية، ولكن وجود بعض العوائق المؤسسية والمجتمعية قد يحول دون تحقيق الاستغلال الأمثل لتلك المزايا للمنافسة على الفرص الاستثمارية على الصعيد العالمي. كما أجد أن الإجراءات التي تقوم بها حكومة المملكة لاستقطاب الشركات العالمية ورؤوس الأموال تبشر بمستقبل واعد لجذب مزيد من الاستثمارات وفرص العمل وتحقيق تنويع مصادر الدخل الوطني الذي نصت عليه "رؤية المملكة 2030". إن المأمول من الجهات المسؤولة عن الاقتصاد والتخطيط القطاعي والمكاني أن تركز على تخطيط وتهيئة المدن السعودية الكبرى، لتكون في مصاف المدن الأولى في التنافسية العالمية. ذلك بالتأكيد لا يعني عدم الاهتمام بالمدن والقرى الصغيرة من حيث توفير الخدمات المتكاملة وأدوات التنمية الملائمة لمجتمعاتها. كما أود الإشارة إلى أن التخطيط لتنمية المناطق يجب أن يسبق توزيع الخدمات والبنى التحتية، وذلك لتجنب الهدر التنموي وترشيد الإنفاق، الذي يعد هدفا رئيسا في "رؤية المملكة 2030".
إنشرها