Author

بين ربط العملات بالدولار .. وسياسة السوق

|
أستاذ جامعي ـ السويد

منذ عقود ودول الخليج العربية الغنية بالنفط حافظت بشموخ على سعر محدد لعملاتها مقابل الدولار الأمريكي. ثبات سعر الصرف وذلك بربطه بعملة صعبة عالمية التداول أمر يثنى عليه وله منافع ومميزات إيجابية كثيرة.
القوة الشرائية للعملات الخليجية من درهم وريال ودينار كانت وربما لا تزال، رغم ما تمر به المنطقة من عواصف سياسية واقتصادية ومالية وغيرها، قوة جذب وورقة رابحة لهذه الدول.
والمقدرة الفائقة لربط هذه العملات بالدولار والتشبث بأسعار صرف ثابتة رغم تبعات السوق واعتماد الدورة الاقتصادية في الغالب على سلعة استراتيجية واحدة وقوانين العرض والطلب لعمري إنجاز كبير لهذه الدول.
ثبات سعر صرف العملات المحلية وما تملكه هذه الدول من المدخرات المالية بالعملة الصعبة لدعمها والحفاظ على قيمتها في الشدائد حولها إلى باحة للثروة الاستراتيجية في العالم.
ولا يخفى ما تمنحه الثروة الاستراتيجية من مكانة لأصحابها في العالم. ولا يخفى كيف يسيل لعاب أكثر دول العالم قوة ومنها دول عظمى للتقرب من أصحاب الثروة وعدم اتخاذ إجراءات تثير غضبهم أو عدم رضاهم.
هذه الثروة الاستراتيجية صارت من الأهمية بمكان للعالم برمته تقريبا. عشرات الملايين من العمال الأجانب تحول المليارات من الدولارات إلى بعض الدول النامية إلى درجة أن خانة الحوالات الخارجية التي تأتيها من الدول الخليجية صارت ركنا مهما من أركان موازناتها.
ومصير مئات الآلاف من العمال في الدول الصناعية الكبرى يستند إلى العقود الهائلة من تنموية وعسكرية وغيرها تعقدها مع شركائها في الخليج العربي.
بيد أن الاستكانة إلى أن الوضع الحالي لا يمكن قهره وأن الثروة الاستراتيجية هذه في منأى عن عوادي تقلبات الأسعار وأن الإيرادات الريعية لن تنضب ومستوياتها لن تنخفض، ومن ثم فإن قيمة العملة المحلية وارتباطها بالدولار من المنعة بمكان، مسألة تحتاج إلى مراجعة وبحث وتمحيص وكثير من الحكمة.
التاريخ ولا سيما المعاصر منه يعلمنا أن سياسة الحفاظ على سعر ثابت للعملة بربطها بعملة أجنبية مسألة تخلت عنها دول ذات منعة وثبات من حيث تنوع الاقتصاد وبنى تحتية تستند إلى صناعة فائقة التطور واقتصاد مزدهر.
أمريكا ذاتها تخلت عن هذه السياسة وفكت ربط دولارها بالذهب وعومته وتركت لقوانين السوق والعرض والطلب أن تحدد قيمته وسعر صرفه.
وهذا ما فعلته النمور الاقتصادية الآسيوية بعد أسوأ أزمة اقتصادية مرت بها في نهاية التسعينيات من القرن الماضي أجبرتها على تعويم أسعار عملاتها. وكان واحدا من الأسباب الرئيسة لهذا الأزمة التي أدت إلى تآكل المدخولات ومشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية جمة هو التصور الخاطئ أن قيمة عملتها المحلية المرتبطة بالدولار لها طوق من الحماية لا يقهر.
الدول الخليجية لها وضع مختلف إلا أن الاقتصاد الريعي الذي هو دعامة اقتصادها عرضة للتجاذب، وأن سلعتها الاستراتيجية تتلاعب فيها ليس فقط قوانين السوق، بل المصالح السياسية والاستراتيجية لهذه الدول والدول المستهلكة لهذه المادة أيضا. والتاريخ المعاصر والتجربة يظهران هلع رأس المال عند الأزمات وهروبه من سلة إلى أخرى للحفاظ على قيمته.
وعندما تكون الموجودات وعلى الخصوص المصرفية منها ومعها الديون العامة والعجز في الميزانية ـــ وهي مبالغ طائلة ـــ كلها ثابتة القيمة من حيث سعر الصرف، في الإمكان تخيل ماذا يحدث من سحب بالعملة الصعبة عند الشدائد.
عندما يراجع علماء الاقتصاد الأزمة الآسيوية يتفق أغلبهم على أن تفاديها كان ممكنا لو تحركت الدول هذه وفكت ربط عملتها بالدولار؛ لأن سعر الصرف الذي تشبثت به لم يكن واقعيا، ما جعلها عرضة لهزات كاد العالم يقرأ السلام على معجزتها الاقتصادية.
سياسة ربط العملة بالدولار وتثبيت سعر الصرف يثيران في الغالب شهية المضاربين بالعملة الذين يقرؤون الأحداث ومسارات أسعار العملات، وكانا أكبر تحد تواجهه النمور الآسيوية في حينه، ومن أجل وضع حد للمضاربين وألاعيبهم كان لا بد من إطلاق عنان السوق لتحديد سعر العملة وأخذ المبادرة منهم.
في حالة بقاء العملة ثابتة ومرتبطة بعملة صعبة أخرى عائمة يجب مراقبة المضاربين مراقبة شديدة وأخذ المبادرة منهم ومن ثم العمل على أن تكون للمصارف الإمكانية والأهلية لتحمل وزر ما تقدمه من قروض مرتبطة بسعر ثابت للصرف، وكذلك أن تكون الشركات في وضع يمكنها من ذلك دفع ديونها استنادا إلى سعر صرف ثابت.
عدا ذلك، ستحدث فوضى مصرفية في إشارة إلى أن الاقتصاد لم يعد يتحمل سعر الصرف الثابت.
وهذا يتطلب جعل المناخ الاقتصادي والمالي أكثر شفافية للتدخل في سعر الصرف في الوقت المناسب درءا لأي احتمالات اقتصادية أو مالية أو مصرفية غير حميدة.

إنشرها