FINANCIAL TIMES

كوريا الشمالية .. إحدى آخر قلاع الشيوعية تخضع لمنطق الرأسمالية

كوريا الشمالية .. إحدى آخر قلاع الشيوعية تخضع لمنطق الرأسمالية

بعد أن استيقظوا قبل الفجر، تم تجريد مجموعة الصحافيين الأجانب من هواتفهم المحمولة ونقلهم بواسطة حافلة. كانوا في بيونجيانج، وأبلغهم مسؤولون رسميون أنهم على وشك أن يشهدوا "حدثا مهما وعظيما". كانت التوترات كبيرة وسط مخاوف من أن الولايات المتحدة يمكن أن تستهدف عاصمة كوريا الشمالية، وبدا عرض القوة الذي يقدمه نظام كيم جونج أون وشيكا.
لكن الموقع الذي ذهبوا إليه كان يشير إلى نغمة مختلفة. عندما غادر الصحافيون، لم يكن في استقبالهم منظر الصاروخ البالستي العابر للقارات، بل بدلا من ذلك كانوا ينظرون إلى شارع واسع تصطف على جنباته ناطحات سحاب. وكان قد تم استدعاء الصحافة من كل أنحاء العالم لتكون شاهدا على افتتاح شارع ريوميونج في نيسان (أبريل) - وهو مشروع إنشاءات أصبح رمزا يمثل بالنسبة لسكان كوريا الشمالية التنمية الاقتصادية الجارية في بلادهم.
منذ توليه زمام السلطة قبل خمس سنوات، عمل كيم بشكل علني على إيلاء النمو الاقتصادي أهمية جوهرية ضمن جدول أعماله، جنبا إلى جنب مع تطوير الأسلحة النووية - وهي سياسة ذات مسار مزدوج تعرف باسم "خط بيونج جين".
وكانت النتيجة إصلاحات تدريجية معتمدة على نظام السوق، أدت إلى نمو سريع في مشاريع القطاع الخاص، وارتفاع في مستوى المعيشة، الأمر الذي يتحدى الأفكار الغربية المسبقة المتعلقة بالدولة الستالينية سابقا، وفقا لمجموعة من خبراء كوريا الشمالية، ومصادر استخبارية، ومقيمين سابقين، ورجال أعمال زائرين.
يقول سوكيل بارك، من منظمة ليبرتي في كوريا الشمالية، وهي مجموعة تساعد عشرات الناس على الهروب من البلاد سنويا: "تحولت كوريا الشمالية من اقتصاد اشتراكي خاضع لسيطرة محكمة جدا من قبل الدولة إلى اقتصاد معتمد على السوق بشكل أساسي. قد تكون المسيرة على شكل خطوتين إلى الأمام ثم خطوة إلى الوراء، لكن يبدو على المدى الطويل أنه سيكون من الصعب جدا اتخاذ سياسة القمع والعودة مرة أخرى إلى اقتصاد تديره الدولة".
في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة ممارسة ضغوطها على نظام كيم من خلال فرض عقوبات جديدة - وهي ضغوط من المرجح أن تزداد نتيجة لوفاة الطالب الأمريكي، أوتو وارمبير، الذي سجن في كوريا الشمالية - تظهر على الاقتصاد علامات تدل على الحيوية والانتعاش يمكن أن تجعل حتى من الأصعب ممارسة الضغوط على بيونجيانج.
يتعين على أي تحليل خاص باقتصاد كوريا الشمالية، أن يتوخى بعض الحيطة والحذر. فالبيانات الاقتصادية الموثوقة عن هذا البلد المنعزل نادرة الوجود وتتنوع التقديرات بشكل واسع. وتراوح التوقعات الخاصة حول حصة الفرد من النمو في الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد عام 2015 ما بين 1 في المائة قدمها بنك كوريا المركزي في سيئول و9 في المائة مقدمة من معهد هيونداي للبحوث.
يقول كينت بويدستون، المحلل لدى معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: "التحديات التي نواجهها عند احتساب الناتج المحلي الإجمالي الخاص بكوريا الشمالية بكل دقة، كثيرة ومستمدة أساسا من ندرة وجود بيانات ذات صدقية حول الاقتصاد الكلي".
لكن بالنسبة لمراقبي تلك الدولة المنعزلة، تبدو بكل وضوح العلامات الدالة على حدوث تغيير. ومن الأمور الملحوظة أن الأجور ارتفعت، وازداد نمو فئة ثرية تعرف باسم "الدونجو". يقول مسؤول أمريكي سابق في الاستخبارات، مشيرا إلى الاستخدام المتزايد للمواد التي كانت نادرة في السابق مثل الألواح الشمسية وأجهزة التكييف: "تبدو التغييرات واضحة عندما تذهب إلى بيونجيانج. هناك حركة مرورية ولدى المدينة أفق جديد لم نعهده قط من قبل".
الإصلاحات التي أدت إلى حدوث طفرة في مؤسسات هي من الناحية العملية شركات خاصة، تم تنفيذها كلها تقريبا بشكل غير رسمي، مع ذكر قليل لها في وسائل الإعلام الحكومية. وعلى ما يبدو لا يستطيع كيم أن يظهر بمظهر من يشكك في الإرث الإيديولوجي الخاص بوالده وجده - الزعيمين السابقين اللذين شجبا فكرة السوق الحرة - خوفا من إثارة تساؤلات حول موقفه هو بالذات، بحسب ما يقول أندريه لانكوف، وهو شخصية أكاديمية مرموقة في سيئول كان قد عاش في بيونجيانج.
يضيف البروفيسور لانكوف: "قرر كيم جونج أون أن يفعل شيئا كان والده خائفا من تنفيذه - بدأ في إدخال عناصر مهمة من اقتصاد السوق. فهو أساسا يقول إن من الجيد أن يتم تنفيذ الأعمال التجارية الآن، لكن هذا لا يعني تحرير السياسة". في الواقع، يتخذ كيم خطوات مبكرة لتنفيذ ذلك النوع من النماذج الذي تتبعه كل من الصين وفيتنام، اللتين عززتا النمو من خلال إصلاحات السوق في الوقت الذي تحافظان فيه على سيطرة سياسية مشددة.

حياة أفضل
يترك كيم القليل من البصمات الواضحة. يقول محللون إنه عمل جزئيا من خلال عدم تنفيذ أي أمر من شأنه أن يدمر الشركات الخاصة الناشئة. في الوقت نفسه، يشير اختيار كبار المسؤولين للعمل في المجال الاقتصادي إلى أن كيم يركز بعض اهتمامه على النمو. الذي كان على رأس عملية افتتاح الشارع الواسع المليء بناطحات السحاب في نيسان (أبريل) هو باك بونج جو، الذي أطيح به من منصب رئيس الوزراء عام 2007 لدعمه إصلاحات مستندة إلى السوق، لكنه يشرف الآن على الاقتصاد.
يشير ليم كانج- تايج، الباحث في معهد كوريا للتوحيد الوطني، إلى أن "أنشطة السوق آخذة في الظهور داخل حدود نطاق سيطرة الدولة". ويضيف: "يُنظَر إلى كيم جونج أون على أنه شخصية عملية؛ لأنه يتغاضى عن نشاط السوق إلى حد ما، سعيا منه لمنح الناس حياة أفضل".
والنتيجة، وفقا لمراقبي كوريا الشمالية، مثل البروفيسور لانكوف، هي "تحسن لا يستهان به في مستويات المعيشة" وحيوية اقتصادية، أكثرها وضوحا في العدد المزدهر من المطاعم والأسواق.
هذه الأسواق المعروفة باسم "جانجمادانج" - بشكل رسمي وغير رسمي - انتشر ظهورها سريعا في السنوات الأخيرة، وهي الآن القاعدة الطبيعية لشراء السلع الاستهلاكية. وفقا لدراسة استقصائية شملت أكثر من ألف منشق، أجريت من قبل المعهد الكوري للتنمية، وهو مركز فكري تديره الدولة في سيئول، يستخدم الآن أكثر من 85 في المائة من شعب كوريا الشمالية تلك الأسواق للحصول على احتياجاتهم من الطعام، مقارنة بـ 6 في المائة يعتمدون على الحصص التي تقدمها الدولة.
وبدا أيضا أن الأجور آخذة في التزايد بشكل مضاعف في السنوات الأخيرة. وفقا للمعهد، ارتفعت رواتب قطاع الدولة الرسمي أكثر من 250 في المائة في السنوات العشر الماضية لتصل إلى ما يعادل أكثر من 75 ألف وون كوري شمالي (نحو 85 دولارا شهريا)، في الوقت الذي زادت فيه الأجور في الوظائف غير الرسمية، مثل وظائف الشركات الخاصة، من 1200 في المائة. وقدر لي بايونج- هو، رئيس جهاز الاستخبارات في كوريا الجنوبية سابقا، أن 40 في المائة من سكان كوريا الشمالية يعملون في أنواع معينة من الشركات ومشاريع القطاع الخاص.
يقول دانيال تودور، المؤلف الذي شارك في تأليف كتاب "سرّي" Confidential، الذي يتحدث عن الرأسمالية الناشئة في البلاد: "اقتصاد كوريا الشمالية هو الاقتصاد غير الشرعي - أو غير الرسمي. كوريا الشمالية آخذة في الانتقال من مرحلة الإقطاع إلى رأسمالية المحاسيب". وعادة ما يتم تأسيس تلك المؤسسات غير الرسمية ضمن إطار الوزارات الحكومية، حيث يستطيع أفراد أغنياء تقديم رشا للمسؤولين مقابل الحق في تأسيس شركة ما، بحسب ما يقول تودور. وهذا الفرد الذي لا يخضع لقيود الدولة، سيتابع بعد ذلك إنشاء شركته الخاصة، مع إعادة حصة نسبتها في العادة 30 في المائة من الدخل إلى الطبقة الرسمية كل شهر. يقول تودور: "هذا شكل من أشكال الضرائب".
إضافة إلى الاعتراف الضمني بوجود أعمال تجارية خاصة، نفذ كيم إصلاحات صناعية وزراعية أوسع نطاقا، ما يمنح المديرين قدرا أكبر من المسؤولية والاستقلالية.
يقول أندراي أبراهاميان، من بورصة تشوسون التي تدعم أصحاب المشاريع في كوريا الشمالية من خلال تقديم تدريب في مجالات التسويق والأعمال التجارية: "أكبر تصور خاطئ حول كوريا الشمالية هو أنها جميعا تخضع لإدارة الدولة. العلامة المميزة لكيم مرتبطة بالاقتصاد، وهذا الارتباط المجازي كان متطابقا مع زيادة في نوعية الحياة الجيدة والسلع الاستهلاكية".
بالنسبة لأبراهاميان الذي زار كوريا الشمالية 29 مرة، هناك حتى بوادر مبكرة على وجود مجموعات تجارية كبيرة ناشئة في كوريا الشمالية، أو "تشايبول" كما تعرف في كوريا الجنوبية.
ويضيف: "هناك نوع من تشكيل المجموعات الكبيرة يجري الآن، على نحو لا يختلف عما تراه في اليابان أو كوريا الجنوبية. هناك قطاعات معينة يتبين الآن أنها أكثر ربحية، وهناك تدافع نحو الاستفادة من ذلك".
ويشير أبراهاميان إلى مثال ماسيكريونج، وهي مجموعة تدير منتجعا للتزلج، وتنتج المياه المعبأة في قوارير، وتشغل حافلات، وتنظم رحلات سياحية. وينطبق هذا الوصف أيضا على "إير كوريو"، شركة الخطوط الجوية الوطنية، التي تدير أيضا واحدة من عدد من شركات سيارات الأجرة في بيونجيانج، وبدأت أخيرا في بيع لحم الطيور المعلب.

غريزة العزلة
بعد التقدّم على جارتها الجنوبية في أعقاب الحرب الكورية، بدأ اقتصاد كوريا الشمالية بالتعثّر في النصف الأخير من القرن الماضي، ليصل في النهاية إلى الحضيض مع مجاعة مدمرة أودت بحياة مئات الآلاف في منتصف التسعينيات.
وعلى الرغم من تعزيز عمليات تطوير الرأسمالية من الصفر، منذ ذلك الحين، لا يزال على البلاد الاستفادة مما يدعوه كوون جوهون، خبير الاقتصاد في جولدمان ساكس "إمكانياتها القوية غير المستغلة"، بما في ذلك قوة عاملة وفيرة، وموارد طبيعية وفيرة، مثل الفحم واليورانيوم وخام الحديد.
وحتى مع وجود علامات متواضعة على الإصلاح، يبقى الاقتصاد في معاناة من انقطاع الكهرباء، وتدهور المعدات، والعقوبات المفروضة بعد تجارب نووية من قِبل بيونجيانج. وبالنسبة لبارك، البيئة الاستثمارية تتسم بمخاطر وعدم قدرة على التنبؤ، وتقوّضها "غريزة العزلة القوية" لدى كوريا الشمالية.
"أي الجهات هي التي تفرض أقصى العقوبات على كوريا الشمالية؟ إنها حكومة كوريا الشمالية"، كما يقول، مُشيراً إلى مثال أزمة فيروس إيبولا عام 2014 عندما أغلقت بيونجيانج أبوابها أمام زوارها البالغ عددهم بضعة آلاف سنوياً، على الرغم من عدم وجود المرض في المنطقة.
في أيار (مايو)، استضافت السلطات معرضا تجاريا يضم أكثر من 230 شركة من بلدان اشتملت على إندونيسيا وإيطاليا وروسيا البيضاء، كما ذكرت وكالة "كيه سي إن آيه" التي تُديرها الدولة. مسؤول رفيع المستوى قال إن الحدث سيعمل على تعزيز الصداقات وتعزيز التنمية الإقليمية.
لكن المستثمرين لا يثقون كثيراً بوضع التجارة القائم على العلاقات وعدم وجود قواعد في البلاد. الخارجيون الوحيدون الذي أثبتوا أنهم قادرون على تجاوز بيئة الأعمال التي تتطلب حذقا ومهارة هم الكوريون من أصل صيني، الذين يتحدّثون اللغة ويحافظون على روابط مع وطنهم.
غياب الاستثمار الأجنبي الحقيقي من المرجح أن يكون نقطة حساسة بالنسبة للنظام الذي عزّز بشدة 24 منطقة اقتصادية خاصة في البلاد. وفي آذار (مارس) أعلنت منطقة جبل كومجانج للتنمية الخاصة أنها تبحث عن استثمار بقيمة 20 مليون دولار من جهات خارجية لبناء سفينة سياحية مجهّزة بكازينو.
على الرغم من المرونة الرسمية في المقامرة، المحظورة في أماكن أخرى في كوريا الشمالية، إلا أن من غير الواضح ما إذا كان المخطط قد حظي بأي اهتمام.
يقول البروفيسور لانكوف: "في اقتصاد كوريا الشمالية الناشئ، الفشل الوحيد هو الاستثمار الأجنبي. يصل الأجانب ويكتشفون أن عليهم بناء كل البنية التحتية"، أو أنهم يتعرضون للخداع والخروج من استثماراتهم تماماً.
عدم وجود الاهتمام الخارجي يترك كوريا الشمالية تعتمد على الصين - شريكتها التجارية الرئيسة وحليفتها منذ فترة طويلة.
يقول مسؤول أمريكي سابق: "بدأت كوريا الشمالية تُدرك أنها تعتمد كثيراً على الواردات الصينية وهذا يمنح بكين ميزة مهمة عليهم".
في الوقت الذي عجلت فيه بيونجيانج برنامجها للأسلحة النووية، يتعرّض الرئيس تشي جينبينج للضغط من الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، لفرض عقوبات أكثر صرامة على كيم. وفي شباط (فبراير) حظرت الصين واردات الفحم من كوريا الشمالية - خطوة يعتقد كوون أنها يُمكن أن تُلحق ضررا باقتصاد كوريا الشمالية يعادل مليار دولار سنوياً.
مع ذلك، قلة من الناس يعتقدون أن الصين تستغل كامل نفوذها على كوريا الشمالية، وفي الأسبوع الماضي أعلن ترمب أن جهودها فاشلة. كتب تغريدة: "في حين أنني أُقدر كثيراً جهود الرئيس تشي والصين للمساعدة بشأن كوريا الشمالية، إلا أن هذه الجهود لم تنجح. على الأقل أعرف أن الصين قد حاولت!". في الوقت نفسه يرفض مسؤولون في بكين الرد على المكالمات الآتية من نظرائهم في بيونجيانج.
ردت كوريا الشمالية على ذلك بانتقاد الجهة الداعمة لها على وسائل الإعلام الحكومية. يقول أبراهاميان: "إنهم مستميتون في البحث عن مستثمرين ليسوا من الصين (...) من أي مكان عدا الصين".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES