default Author

انخفاض أنصبة العمالة في الاقتصادات المتقدمة

|
يلاحظ أن نصيب العمالة من الدخل ينخفض عند ارتفاع الأجور بمعدل أبطأ من زيادة الإنتاجية، أو حجم الناتج لكل ساعة عمل. والنتيجة هي أن نسبة متنامية من مكاسب الإنتاجية باتت تذهب إلى رأس المال. ولما كان رأس المال غالبا ما يتركز في المستويات العليا من توزيع الدخل، فمن المرجح أن يؤدي تراجع نصيب العمالة من الدخل إلى زيادة عدم المساواة في توزيع الأجور. في الاقتصادات المتقدمة، بدأت أنصبة دخل العمالة تسير في اتجاه تنازلي خلال الثمانينيات حتى وصلت قبيل الأزمة المالية العالمية في 2008 ـــ 2009 إلى أدنى مستوياتها المسجلة في نصف القرن الماضي، ولم تحقق تعافيا ملموسا حتى الآن. وأصبحت أنصبة العمالة أقل بنحو أربع نقاط مئوية مما كانت عليه في 1970. ورغم وجود بيانات أقل عن اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، فمن الملاحظ أن أنصبة عمالتها انخفضت أيضا منذ أوائل التسعينيات. وينطبق هذا بوجه خاص على الاقتصادات الأكبر في هذه المجموعة. ففي الصين، على سبيل المثال، انخفضت أنصبة العمالة بما يقرب من ثلاث نقاط مئوية رغم الإنجازات المتميزة التي حققتها في الحد من الفقر على مدار العقدين الماضيين. وبالفعل، مع بقاء النمو دون المستوى في كثير من البلدان، نشأ إدراك متزايد لعدم وصول ثمار النمو إلى الجميع، ما تسبب في زيادة رد الفعل المناهض للاندماج الاقتصادي وتعزيز التأييد للسياسات المنغلقة. وينطبق هذا على عدة اقتصادات متقدمة بوجه خاص. وتلقي دراستنا نظرة متعمقة على هذه الأعراض وعلى الدوافع المحركة لهذا الاتجاه التنازلي في نصيب العمالة من الدخل. في الاقتصادات المتقدمة، يمكن إرجاع نحو نصف الانخفاض في أنصبة العمالة إلى تأثير التكنولوجيا. فقد كان الانخفاض مدفوعا بمزيج من التقدم السريع في المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية وارتفاع نسبة المهن التي يمكن أداؤها بسهولة عن طريق التحول إلى نظم آلية. أسهم الاندماج العالمي بدور أيضا - حسبما يتبين من الاتجاهات العامة في تجارة السلع النهائية، والمشاركة في سلاسل القيمة العالمية، والاستثمار الأجنبي المباشر. وتقدر مساهمته بنحو نصف مساهمة التكنولوجيا. ونظرا لأن المشاركة في سلاسل القيمة العالمية عادة ما تنطوي على نقل المهام كثيفة العمالة إلى الخارج، يصبح أثر الاندماج هو تخفيض أنصبة العمالة في قطاعات السلع التجارية. ومن المعروف أنه يصعب الفصل الدقيق بين تأثير التكنولوجيا وتأثير الاندماج العالمي، أو بين تأثيرهما وتأثير السياسات والإصلاحات. ولكن النتائج دامغة في حالة الاقتصادات المتقدمة. فالتكنولوجيا والاندماج العالمي يفسران معا قرابة 75 في المائة من الانخفاض في أنصبة العمالة في ألمانيا وإيطاليا، وقرابة 50 في المائة من انخفاضها في الولايات المتحدة. في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، سمح الاندماج العالمي بتوسيع سبل الحصول على رأس المال والتكنولوجيا، كما أدى من خلال زيادة الإنتاجية والنمو إلى رفع مستويات المعيشة وانتشال الملايين من براثن الفقر. غير أن هذه القوى ربما تكون مرتبطة أيضا بتراجع أنصبة العمالة من الدخل، عن طريق تحويل الإنتاج في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية نحو أنشطة أكثر كثافة في استخدام رأس المال. ونجد أن الاندماج العالمي، وتحديدا المشاركة في سلاسل القيمة العالمية، كان محركا أساسيا لانخفاض أنصبة العمالة في الأسواق الصاعدة. غير أن هذا الأثر يمكن اعتباره أثرا حميدا؛ إذ إنه ناتج عن تعميق رأس المال الذي لا يصاحبه بالضرورة تسريح للعمالة أو تخفيض للأجور. ففي تركيا، على سبيل المثال، تعد زيادة سرعة المشاركة في سلاسل القيمة العالمية تفسيرا يكاد يكون حصريا للانخفاض البالغ خمس نقاط مئوية في نصيب العمالة من الدخل. وفي المقابل، أسهمت التكنولوجيا بدور محدود في هذه الاقتصادات، وهو ما يعكس انخفاضا أقل في السعر النسبي للسلع الاستثمارية ونصيبا أقل من الوظائف القابلة للتشغيل الآلي. ومن النتائج الأساسية الأخرى التي خلص إليها بحثنا أن انخفاض أنصبة العمالة في الاقتصادات المتقدمة كان حادا بوجه خاص في حالة العمالة متوسطة المهارات. فالتكنولوجيا التي تركز على المهام الروتينية استولت على كثير من المهام التي يعهد بها إلى هذا النوع من العمالة، ما أسهم في استقطاب الوظائف نحو المهن ذات المهارات العالية والمنخفضة. وتعززت ظاهرة "التجريف" مع الاندماج العالمي، حيث تجد الشركات في الاقتصادات المتقدمة فرصا متزايدة لاستخدام العمالة العالمية المتاحة من خلال سلاسل القيمة العابرة للحدود. وختاما فإن التقدم التكنولوجي والاندماج الاقتصادي العالمي، رغم كونهما محركين أساسين للرخاء العالمي، إلا أنهما يخلفان آثارا في أنصبة العمالة تفرض تحديات أمام صناع السياسات في سعيهم لتعميم المنافع المتحققة منهما على نطاق أوسع. ولا شك أن تصميم تحركات السياسة المطلوبة في هذا السياق يجب أن يتحدد وفق ظروف كل بلد ويستند إلى العقد الاجتماعي القائم فيه.
إنشرها