Author

منظور جديد لمصلحة إجمالي الناتج المحلي «2 من 2»

|
يعامل المختصون في الحسابات القومية الحكومة والشركات التجارية باعتبارهما الجزء المنتج من الاقتصاد، بينما يعاملون قطاع الأسر المعيشية باعتباره قطاعا غير منتج، ولكن الحدود التي كانت واضحة نسبيا من قبل بين العمل والمنزل بدأت في التلاشي. وبدأ عدد أكبر فأكبر من الأشخاص العمل لحسابهم الخاص أو كموظفين مستقلين من خلال المنصات الرقمية. وتتسم ساعات عملهم بالمرونة، ويمكن أن يتداخل العمل مع أنشطة أخرى. كما يستعملون في كثير من الأحيان الأصول الخاصة بالأسرة في تأدية عمل مدفوع الأجر، بدءا من الحواسيب والهواتف الذكية إلى منازلهم وسياراتهم. ويسهم كثير من الناس في عمل رقمي مجاني مثل إعداد برمجيات مفتوحة المصدر يمكن أن تحل محل نظيراتها المتداولة في السوق، ومن الواضح أنها ذات قيمة اقتصادية كبيرة على الرغم من توفيرها بالمجان. وتؤكد هذه المستجدات الحاجة إلى فهم إحصائي أفضل بكثير لأنشطة الأسر المعيشية، ومع ذلك لا يقوم إلا عدد قليل من البلدان بجمع أي بيانات مناسبة عن أصول الأسر المعيشية. إن تلاشي الحدود بين المنزل والعمل ليس الوسيلة الوحيدة التي تؤدي بها التكنولوجيا إلى صعوبة حساب إجمالي الناتج المحلي. ويدعي كثيرون في قطاع التكنولوجيا أن إحصاءات إجمالي الناتج المحلي التقليدية تقدر أهمية الثورة الرقمية بأقل من قيمتها. ولم تتباطأ وتيرة الابتكار في مجالات مثل الاتصالات والتكنولوجيا البيولوجية والمواد والطاقة الخضراء ـ ما يجعل من النمو الباهت وضعف أداء الإنتاجية في كثير من الاقتصادات المتقدمة أمرا محيرا. وعلى سبيل المثال، تسمح تكنولوجيا الضغط للشبكات اللا سلكية بنقل حجم أكبر من البيانات بسرعة أكبر من أي وقت مضى وبجودة عالية، وبدأت أسعار ابتكارات من قبيل الطاقة الشمسية ومتوالية الجينوم البشري تنخفض بسرعة. فهل يمكن أن تكون الإحصاءات غير قادرة على التكيف بشكل سليم لمراعاة التحسينات في الجودة الناشئة عن التكنولوجيا وبالتالي تبالغ في تقدير حجم التضخم وتقدر الإنتاجية والنمو بأقل من قيمتهما الحقيقية؟ وفي الممارسة العملية، تنطوي الأرقام الرسمية على قدر طفيف للغاية من التعديل في الجودة لحساب مؤشرات الأسعار "الهيدونية" ـ أي تلك التي تراعي التحسينات التي تطرأ على الجودة. وخلص الباحثون الذين حاولوا توسيع نطاق التعديل الهيدوني ليشمل طائفة أوسع من الأسعار في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الولايات المتحدة إلى أن ذلك لا يحدث اختلافا كبيرا في صورة النمو البطيء للإنتاجية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى ضعف الصناعات التحويلية القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الولايات المتحدة دراسةByrne, Fernald, and Reinsdorf 2016. غير أن هذا البحث لم يمتد ليشمل الطائفة الأوسع من السلع والخدمات المتأثرة بالتحول الرقمي، ولا يزال هناك بعض المسائل المفاهيمية التي يتعين تسويتها. وعلى سبيل المثال، هل تعد خدمة البث الموسيقي مكافئة للتنزيل الرقمي أو شراء الأسطوانات المدمجة، أم هي سلعة جديدة؟ وبعبارة أخرى، هل يشتري المستهلك صيغة محددة أم أنه يشتري إمكانية الاستماع إلى الموسيقى فقط؟ وإذا كان يشتري الصيغة المحددة، فالوضع المثالي إذن هو أن يكون هناك مؤشر لأسعار الموسيقى معدّل حسب الجودة. ومن حيث المبدأ، تحسب مؤشرات الأسعار ما يجب على الأشخاص دفعه للحصول على مستوى المنفعة أو الرضا نفسه من جميع مشترياتهم، إلا أن وضع هذه الحسابات موضع التنفيذ العملي ليس عملية مباشرة. وبالفعل، يدعي الاقتصاديون أنه من المستحيل رصد جميع منافع الابتكار للرفاهية الاقتصادية في إجمالي الناتج المحلي، الذي يقيس المعاملات بسعر السوق؛ وستكون هناك دائما بعض المنفعة التي تتجاوز ذلك السعر، التي يطلق عليها اسم "فائض المستهلك". ولا تختلف السلع الرقمية عن موجات الابتكار السابقة في هذا الصدد. وعلى الذين يستخدمون نمو إجمالي الناتج المحلي لقياس الأداء الاقتصادي أن يضعوا في اعتبارهم أنه لم يكن أبدا مقياسا كاملا للرفاهية الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، فإن المنفعة التي تعود على المستهلك من دواء جديد مهم دائما ستتجاوز بكثير سعر السوق في نهاية المطاف. وفي حين أن هذه الحجة صحيحة، فإنها تقلل من إمكانية الفصل الواضح بين الرفاهية وإجمالي الناتج المحلي الآن، نظرا لتأثير التكنولوجيا الرقمية في نماذج الأعمال وسلوك المستهلكين. أصبحت أوجه القصور في إجمالي الناتج المحلي المتمثلة في عجزه عن رصد عدم المساواة واضحة للغاية في الآونة الأخيرة. وتتجاهل عملية تجميع فرادى الدخول أو النفقات للوصول إلى إجمالي الناتج المحلي مسألة توزيع الدخل، كما أن مساواة نمو إجمالي الناتج المحلي بتحسن الرفاهية الاقتصادية تفترض عدم وجود أي سبب يدعو إلى تغيير النظام الحالي للتوزيع. وعندما لم يتغير توزيع الدخل تغيرا كبيرا ـ حتى منتصف الثمانينيات في معظم بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ـ لم يكن تجاهل هذه المسألة يهم كثيرا. غير أنه بفضل كتاب توماس بيكيتي الأكثر رواجا "رأس المال في القرن الحادي والعشرينCapital in the Twenty-First Century، وأيضا بفضل الحركات الشعبية التي بدأت تظهر في عدد من البلدان، لم يعد أحد يتجاهل مسائل التوزيع. ومن الممكن تعديل إجمالي الناتج المحلي لمراعاة جوانب التوزيع وسائر الجوانب غير السوقية من الرفاهية الاقتصادية. وقد بدأ الاقتصاديون يناقشون "مرة أخرى" تعديلات بعينها. ويقترح ديل جونسون من جامعة هارفارد جمع معلومات التوزيع المستمدة من الدراسات الاستقصائية للأسر المعيشية مع الحسابات القومية، "دراسة Jorgenson قيد الإصدار". واقترح تشارلز جونز وبيتر كلينو مقياسا واحدا يضم الاستهلاك والراحة والاستجمام ومعدل الوفيات وعدم المساواة؛ وتظهر حساباتهما أن هذا المنهج يسد جزءا كبيرا من الفجوة الظاهرة في مستويات المعيشة بين الولايات المتحدة وسائر بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي عندما يتم تقييم ذلك على أساس إجمالي الناتج المحلي للفرد "دراسة Jones and lenow 2016". وقد يحدث ذلك. وأصبحت المسألة مدرجة الآن على جدول أعمال بحوث الاقتصاديين لأول مرة منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. ففي المملكة المتحدة، أنشأ مكتب الإحصاءات القومية مركز بحوث جديدا معنيا بالإحصاءات الاقتصادية، وبدأ العمل في شباط (فبراير) 2017. ويكتسي النقاش بشأن هذه المسألة أهمية بالغة، نظرا للاعتقاد السائد الذي يفيد أن التقدم الاقتصادي في الآونة الأخيرة ـ كما يقاس بإجمالي الناتج المحلي ـ لم يرق إلى المستوى المطلوب. وترى الحوارات العامة بشأن السياسة الاقتصادية إلى حد بعيد بناء على نمو إجمالي الناتج المحلي، ومن ثم فإن تراجع مكانة إجمالي الناتج المحلي كمقياس معقول للرفاهية الاقتصادية مسألة جدية بالفعل.
إنشرها