Author

اقرأ بالمجان

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في السابق من الزمان كنا نحسد الشخص الذي يسكن بالقرب من المكتبة العامة. القرب من المكتبة معناه سهولة زيارتها وإعارة الكتب منها. البعد عن المكتبة معناه صعوبة الوصول إليها من حيث الوقت وتكلفة النقل. وكنا أيضا نحسد الزميل الذي له مكتبة شخصية في داره. الكتب الورقية –وحتى يومنا هذا- غالية الثمن واقتناؤها بأعداد كبيرة ليس أمرا متاحا للأغلبية الساحقة من القراء. والوصول إلى الكتاب لم يكن يسيرا في أي حال من الأحوال. ظهور المطابع الحديثة جعل الكتاب متوافرا شأنه شأن أي بضاعة يحتاج إليها الناس لاستهلاكهم اليومي. بيد أن الكتاب ظل بضاعة محصورة في مناطق محددة من المدن الكبيرة. لكل مدينة تقريبا شارع أو جزء من شارع توجد فيه المكتبات المختصة بتجارة وبيع الكتب. والعرب مشهود لهم حبهم للقراءة والكتاب لاسيما في عصر نهضتهم إبان الدولة العباسية في بغداد والأموية في الأندلس وغيرها من الحواضر. في بغداد العباسية كان للناسخين دور يشبه ما تقوم به المطابع اليوم لجعل الكتاب متاحا ورخيصا يسهل شراؤه وتداوله. الناسخون كان لهم شارعهم الخاص بهم في المدينة العظيمة هذه التي كانت في حينها منارة العلم والمعرفة والثقافة والفنون. وحب وولع وشغف الزوراء ودار السلام -من الأسماء التي عرفت بها بغداد- بالكتاب لم ينقطع في أحلك أيامها. قد يستغرب القارئ إلا أن اليوم ما يجمع الملايين السبعة تقريبا من سكان بغداد هو شارع المتنبي، الذي يعود إلى أواخر العهد العباسي الذي منذ ذلك الزمان إلى اليوم يتكلم بلسان الثقافة والمعرفة والعلوم والآداب والفنون التي اشتهرت بها دار السلام. كل زائر يحط الرحال في الزوراء إن كان صحافيا أو سائحا أو غيره لابد أن يعرج على هذا الشارع ولابد أن ينبهر بهذا الصرح لحاضرة لم يعرف تاريخ العرب والمسلمين لها مثيلا ومنها خرجت المقولة الشهيرة: "وخير جليس في الأنام كتاب". ولكن الجليس هذا وقع أسير الثورة الرقمية التي يبدو أنها مصرة على تفكيك أنماط وأساليب حياتنا وسلوكنا كبشر. الكتاب في النظام الرأسمالي ولدى الشركات العملاقة التي تشكل دعامته الأساسية ما هو إلا بضاعة شأنه شأن أي بضاعة أخرى. والشركة التي استثمرت كثيرا في تجارة الكتاب هي "أمازون" التي تتربع على قمة البورصة في أمريكا جنبا إلى جنب مع "مايكروسوفت" و"فيسبوك" و"أبل" و"جوجل". الشركات الخمس هذه التي قد لا يتجاوز عمر كل واحدة منها عقودا ثلاثة هي اليوم أكبر الشركات في الدنيا حسب القيمة السوقية. هناك كثير مما يجمع الشركات العملاقة هذه التي لم يعرف العالم مثيلا لها. واحد من أهم المميزات هو امتلاكها لبرامج تشغيل إلكترونية ورقمية فائقة التطور خاصة بها ويتم استحداثها باستمرار للحفاظ وتعزيز مكانتها في السوق. وما إن ترى أو تشم هذه الشركات رائحة منافس يحاول مباراتها حتى تهرع إلى ابتلاعه أو إزاحته. وإن رأت أن أيا من خدماتها التجارية دخلت عصر "المجانية"، أي حرية الوصول إلى المادة أو المحتوى مجانا، غادرت النشاط هذا صوب نشاط ربحي آخر. وهذا ما تفعله "أمازون" -التي هي اليوم محط أنظار عالم المال والبورصة- حيث بدأت بتنويع مصادر دخلها والدخول في نشاطات بيع إلكترونية تشمل بضائع عديدة ومتنوعة من خلال أسطول هائل من وسائط النقل المختلفة ومخازن ربما لا تعد ولا تحصى في أمريكا وأماكن أخرى كثيرة من العالم. تجارة الكتاب إلكترونيا التي من خلالها عرفنا "أمازون" لم تعد ذات أهمية بالنسبة لهذه الشركة العملاقة التي وصل سعر السهم فيها إلى نحو ألف دولار ولم تتزعزع مكانتها رغم عمليات شراء كبيرة قامت بها أخيرا. يشكل الإنترنت العمود الفقري للشركات العملاقة الخمسة ومنها "أمازون". ولكن هذه الشبكة العنكبوتية ذاتها التي أصبحت مشاعة إلى حدّ كبير في الإمكان استخدامها لتقويض سيطرة الشركات الكبيرة في بعض المضامير على الأقل. وهذا ما حدث لاحتكار شركة "أمازون" للتجارة الإلكترونية للكتاب. لقد ضاق الناس ذرعا بهذه التجارة، حيث يتطلب أمر الحصول على الكتاب وقتا طويلا وسعرا باهظا. ومكن الإنترنت مجموعات صغيرة من الناس إنشاء مواقع للتبادل التي من خلالها يسرقون البضائع الثقافية من كتب وأفلام ويضعونها في متناول الجميع مجانا على الشبكة العنكبوتية. وصرنا نشاهد تراجعا ليس فقط لدور المكتبات والشوارع الخاصة بها، بل أيضا المواقع الإلكترونية الخاصة بالبيع. في كثير من الأحيان في الإمكان الحصول على المحتوى بنسخته إلكترونية قبل عرضه تجاريا في الأسواق. وصار بإمكاننا قراءة ما كنا نجدّ ونشقى وندفع ثمنا غاليا للحصول عليه مجانا اليوم. والقراءة المجانية دخلت أروقة النشر الأكاديمي من أوسع أبوابه وصارت خطرا على دور نشر أكاديمية كبيرة احتكرت نشر الدوريات لعقود طويلة.
إنشرها