Author

أسباب فشل النخبة المثقفة في التعلم من تجاربها

|

بعد فشلها في التنبؤ بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفوز ترمب، لم تراجع النخب أسباب فشلها.
أظهرت الأحداث أخيرا أن مصداقية النخب كانت الضحية الكبرى خلال 2016. فقد زعزعت الصفعة المزدوجة التي تلقتها وسائل الإعلام والسياسيون من جراء فوز ترمب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من هيبتها ومصداقيتها. وتجاهلها لتصاعد الشعبوية اليمينية أظهر تقوقع معظم النخب وانعزالها عن الواقع. وكان جليا أنهم لم يكونوا منصتين إلا إلى نظرائهم لفترة طويلة جدا.
فماذا الآن؟ شاهدنا منذ فوز دونالد ترمب، كيف بدأ كثير رحلة البحث عن الذات في محاولة منهم لتحديد الكيفية التي أدت إلى فشلهم. ولكن حتى إن بدا ذلك كنوع من التواضع، إلا أنهم يظهرون نوعا من الفوقية خلال ذلك.
جاء في صحيفة "واشنطن بوست"، على سبيل المثال: "أردنا أن نصدق.. أن أمريكا أفضل من ذلك. بالإمكان لوم الصحافيين على كثير من الأشياء، ولكن لا يمكننا لوم أنفسنا على ذلك".
ونقلا عن بروفيسور بريطاني خبير في الشؤون السياسية أوردت صحيفة "نيويورك تايمز"، "الهوية والسياسة الثقافية وليس الاقتصاد، تلعبان دورا أكبر مما كنا نظن في رسم الأفكار السياسية عند الأشخاص".
لا يوصف ذلك على أنه بحث عن الذات ـــ فهو أقرب ما يكون إلى النفاق أو إلقاء اللوم على الغير. فهو يهمل أنماط التاريخ، حيث كانت الشكاوى المتعلقة بالهوية والثقافة تشتعل في بعض الأحيان مع انعدام الأمن الاقتصادي (ألمانيا النازية أكبر مثال على ذلك). فإذا كان ذلك يأتي من أفضل النخب من ناحية التعلم من الأخطاء، فإنه مدعاة للقلق، على اعتبار أن الانتخابات المقبلة في أوروبا ستحدد إذا ما كان المد الشعبوي سيفرض نفسه بشكل أكبر في القارة.
لفهم المشكلة الحالية للنخبة المثقفة، سننظر إلى هيلاري كلينتون ـــ التي كان من المتوقع فوزها على نطاق واسع، حتى في الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات والدعم الكبير الذي تلقته من النخبة. وامتلأ موقع الحملة بخطط مفصلة ومنطقية لمعالجة قضايا مهمة، من تعاطي المخدرات والتعليم إلى الإرهاب وتغير المناخ. مواضيع كثيرة لم تكن كافية لإقناع الناخبين. ويبدو أن محاولاتها بإظهار الجانب اللين، بدت مصطنعة وكأنها مرغمة على القيام بذلك، وتمت السخرية منها بشدة على شاشات التلفزيون. ومع ذلك، ظل معسكر كلينتون متمسكا باعتقاده بأن الإصلاحات السياسية المختارة بعناية ستعوض غياب العامل الملهم الذي يأتي في صلب الترشح. ويبدو أنهم استسلموا لما أسميه فخ الاحتراف، وهو شائع بين النخب التي يكون فيها التفكير التحليلي المتمحور حول تفاصيل موضوعية، هو المسيطر. في الوقت الذي يكون فيه التركيز على الجانب العاطفي ــــ الحسي والاحتياجات الاجتماعية والنفسية ــــ مهملا.
في حين انصب تركيز ترمب على الجانب المعاكس: الكلية بدلا من الغرق بالتحليل، أي التركيز على الغابة ككل بدلا من الأشجار. وعلى حد قول الرئيس أوباما، قد لا يكون ترمب "رجل الخطط" أو "رجل الحقائق"، ولكنه كان الأنجح في قراءة المشاعر الخفية السائدة. وعلاوة على ذلك، وعلى عكس النخب، فقد قام بتشخيص الواقع بشكل صحيح وشامل: أدرك الشعور الملحوظ بعدم المساواة في الدخل ـــ واستفاد منه على نحو سليم. ونجح سلوك ترمب على طول الحملة في إبراز التعاطف مع الأمريكيين الذين كانوا (صوابا أو خطأ) يستبعدون حدوث انتعاش اقتصادي. وأعطى مناصريه من الأمريكيين الذين لا يشعرون بالأمان من الناحية المالية متنفسا لغضبهم وكذلك كبش فداء (سواء من المهاجرين غير الشرعيين، والمسلمين، وما إلى ذلك). على الرغم من عدم كونه "عقلانيا"، تعلم ترمب على ما يبدو من التاريخ أنه عندما تشعر جماعة مهيمنة بالتهديد من التغيرات المحسوبة، ستجد منبعا للعواطف الجماعية السلبية، التي يمكن الاستعانة بها لكسب السلطة السياسية. فكانت العلاقة التي شكلها مع أتباعه قوية، حيث صمدت بسهولة أمام الفضائح التي كان يواجهها بشكل يومي تقريبا.
وعلى العكس من ذلك، إهمال كلينتون للجانب العاطفي، والعقلية التحليلية التي اتبعتها زادت من تعليقاتها الكارثية. حيث انطوت كلماتها على انعدام تام للتعاطف مع ملايين الأمريكيين من غير النخبة، الأمر الذي استغله ترمب في حملته ببراعة. فلو لم تقع في فخ الاحتراف، لكانت قادرة على إدراك مشاعر الضعف الاقتصادي، والخوف من المستقبل، والغضب من الظلم الاجتماعي الذي يكمن في رهاب الأجانب لعديد من أنصار ترمب، ومن ثم التعاطف معها. لكنها عوضا عن ذلك، أدانت هذا التعصب واعتبرت الأمر لا يستحق التعاطف.
وفي الوقت نفسه، صبت النخبة اهتمامها على الأشجار بدلا من الغابة، وبذلوا طاقتهم لإثبات أن ترمب كان على خطأ في عديد من الأشياء. وبالنظر إلى تعهد ترمب ببناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، ووعده بأن المكسيك ستدفع الثمن. ذكرت وسائل الإعلام الأسباب عن كون الجدار مجرد أحلام (تكاليف باهظة، وما إلى ذلك)، ولكن لم يبال أتباع ترمب بذلك. وظلت فكرة "بناء الجدار" ذات شعبية طوال الحملة.
كما أشار بيتر ثيل في تصريحاته التي تم تداولها كثيرا، لا يجب أن يؤخذ مفهوم الجدار حرفيا. وقد فهم مؤيدو ترمب ذلك على أنه كناية عن تأمين الحماية من المخاطر الاجتماعية والاقتصادية (من منظور أكثر شمولية). فسواء كانت مخاوفهم تلك مبررة أو غير مبررة، الاستعارة بالجدار أعادت إحياء الأمل في مخيلتهم نحو حياة أفضل، تماما كما فعلت الوعود الخلابة التي أطلقتها الحملة الداعمة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وبعد حادثة خروج بريطانيا وفوز ترمب، لم تمتلك النخبة المثقفة تفسيرا لانجذاب الشعوب نحو جناح اليمين، ما عدا سلة من الإجابات غير المنطقية كرد على ذلك. فإذا ما بقيت النخب تتباهى بتفوقها التحليلي والأخلاقي، ستظل تتلقى اللكمات على طول الخط.
يبدأ إصلاح الخلل في القيادة على المدى الطويل بإصلاح المناهج الدراسية في المدارس المرموقة التي ترتادها أغلبية النخب. فقلة من الناس ولدوا ودفعوا لقمع الجانب العاطفي لديهم، وتمت زراعته في نفوسنا. فمع وصولنا إلى مرحلة النضج، يكافئنا النظام التعليمي الحالي على براعتنا في التعامل مع المفاهيم الفكرية الصعبة. ويميل المنهج نحو التدريب التحليلي بشكل كبير. تحقيق التوازن مطلوب بشكل عاجل لمساعدة قادة المستقبل على تجنب الوقوع في فخ الاحتراف. فالتفكير التحليلي مطلوب لكتابة خطة عمل أو القيام بعمل علمي، ولكن تحفيز الناس يتطلب عقلية ذات رؤية كلية تعنى بالجانب العاطفي أيضا.

إنشرها