ثقافة وفنون

امتلك أقل .. تحيا بسعادة أكبر

امتلك أقل .. تحيا بسعادة أكبر

"السعادة هي أن تملك ثلاثة أشياء؛ شيئا تعمله، وشيئا تحبه، وشيئا تطمح إليه". كهذا بكل بساطة ينظر الأديب والروائي الروسي تولستوي فيري إلى السعادة، وقد كثف الفيلسوف السفسطائي جورجياس ما فصل فيه الأديب في مقولة نقلها عنه نيكولاس وايت؛ في كتابه السعادة، بقوله: "إن السعادة هي الحصول على أي شيء نريده".
بالعودة إلى الأدبيات الفلسفية التي كتبت في الموضوع منذ عهد اليونان، مرورا بحقبة الفلسفة الإسلامية، وصولا إلى العصر الحديث، نجد معظمها يربط بشكل تلازمي بين السعادة والامتلاك؛ أي إشباع الرغبات وتلبية الحاجات أيا كانت طبيعتها. حتى قيل إن السعادة مرادف للحاجة؛ نحتاج إلى الأشياء التي لا نملكها، وهذا الفقد يولد شعورا بالقلق وعدم الاستقرار، ما يولد رغبة في الشيء الذي لا نملكه. تلبية هذه الرغبة تولد شعورا بالرضا والإنجاز والاكتمال الذاتي.
هكذا إذن يسود شبه إجماع بين تيار كبير ممن اشتغلوا على مبحث السعادة أنها تعادل حصول الفرد على مبتغاه، لكن السؤال الأهم يبقى ماذا بعد تحقق ذلك؟ أي ما بعد أن ينال الفرد مراده، ويصل إليه، ويمكن منه ويشعر بالانتشاء فهل ذلك مطلق السعادة؟ هل السعادة لها حدود محصورة تقف عندها مجرد حصول الإنسان على بُغيتِه؟
ألن يسقطنا الأمر في متوالية لا متناهية مفادها؛ أن يتلذذ المرء بمرغوبه، وعند الانتشاء يسعى لطلب مرة أخرى. وهكذا كلما نقص المرغوب سعى في طلبه، ما يعني أن الفرد؛ والحالة هذه، لا يعيش حياة السعادة، لأن الأمر إذا ظل بين عطاء وسلب فالحياة آلت إلى قلق وخوف وتردد. قلق وخوف على نفاد مصدر السعادة، وعدم استقرار حتى الحصول عليها. وإذا ما تم الأمر، بدأ طريق المخاوف والهواجس ينتاب النفس من السلب والفقد أو البحث المستمر عن المزيد.
بعيدا عن ركام السجال الذي يعترضنا طي الخوض في دروب السعادة، ظهر اتجاه فكري/حياتي حديث جدا يشق عصا الطاعة على كل المدارس التقليدية المعروفة في رحاب نظرية السعادة، شعاره «امتلك أقل.. تحيا بسعادة أكبر»، من رموز شاب ياباني في مقتبل العمر؛ 35 سنة، يدعى فوميو ساساكي Fumio Sasaki، بسط أفكار هذا المذهب الجديد في كتاب Goodbye, Things On Minimalist Living (وداعًا للأشياء عن الحياة بالحدود الدنيا)؛ الذي يقدم فيه عصارة تجربته الشخصية.
يستند ساساكي للدفاع عن أطروحة إلى حجج بسيطة ومقنعة، ويتعمد عند بسط أفكاره على تقنية المقابلة بين مقولات؛ عادة ما تحظى بالإجماع، حتى يسهل إقناع الآخرين بمذهبه. لا أحد سيعترض على فكرة أننا نعيش في مجتمع استهلاكي محاصر منذ الطفولة بالإشهار، الشيء الذي يحولنا إلى مرضى بداء الاستهلاك العضال.
من المعتقدات الشائعة بين الأفراد أن زيادة الممتلكات تعني تحصيل سعادة أكبر، لذا نجمع وندخر قدر المستطاع في ظل الجهل بالمستقبل. ما يعني أننا بحاجة إلى كثير من المال، لذلك نبدأ تدريجا بالحكم على الناس بحسب كمية المال التي بحوزتهم. فهي وفق هذا المبدأ، الضامن لتحقيق الفرد سعادته، على هذا الأساس يصبح كسب مزيد من المال ضرورة حتمية حتى لا يفوت الفرد موعده مع السعادة.
ينبه الكاتب قراءه إلى حقيقة طالما تجاهلوها تفيد بأنه «ما دمت حيا ترزق، ولم تتحول إلى عداد الموتى، فهذا دليل على أن حاجياتك ملباة»، ليضع بذلك حدا لأوهام الجري المتواصل وراء السعادة. فالجميع يريد أن يكون سعيدا. ولكن محاولة شراء السعادة يجعلنا سعداء لبعض الوقت لا غير. نحن ضائعون عندما يتعلق الأمر بالسعادة الحقيقية.
أكثر من ذلك يرى بأن "زحمة الأشياء تفقدنا الشعور بالسعادة" لذا ينصحنا بالاقتداء به، حيث ودع كثيرا من الأشياء، مع أن عددا كبيرا منها رافقه سنوات عدة. لقد اكتشف الرجل أن "مراكمة الأشياء حاجز أمام تحقيق السعادة"، لذا لم يتردد في تسيطر قواعد تؤطر منهجه في التعامل من الأشياء. أولا؛ التخلص من الأشياء التي لم تستعمل طيلة سنة. ثانيا؛ التنفيذ الإجباري بعد التفكر خمس مرات في مصير الشيء. ثالثا؛ التعامل مع الأشياء بمنطق الإيجار، فمالكها ملزم بالدفاع عنها. رابعا؛ الانحياز إلى الفراغ، أي ترك المساحة غير المستخدمة فارغة...
بهذه القواعد وأخرى وجد ساساكي نفسه في رحاب البساطة، حيث قلل فيه ممتلكاتك قدر الإمكان. فهو يعيش حاليا مع مجموع أشياء لا تتعدى 150، تحت سقف شقة مساحته 30 متر مربع. وضعية يعلق عليها بقوله: «إن العيش مع ضروريات الحياة فحسب لا يوفر مجرد فوائد سطحية مثل متعة غرفة مرتبة أو سهولة التنظيف، بل يؤدي أيضا إلى تحول أكثر جوهرية. لقد أعطاني فرصة التفكير في المعنى الحقيقي للسعادة... أعيش الآن كل يوم بروح أكثر سعادة، وأشعر الآن بالرضا أكثر من أي وقت مضى».
يبدو أن أنصار مذهب "التخلي"؛ الحياة بالحدود الدنيا من الممتلكات، قد أعياهم الكم الهائل مما كُتب عن السعادة عبر التاريخ؛ لدرجة جعلت الفيلسوف الفرنسي لوك فيري يُخضِعه لمبدأ الانتقاء في كتابه "الطرق السبعة للسعادة".
أو أنهم وقفوا بعد بحث مضن على الخلاصة ذاتها التي وصل إليها نيكولاس وايت في كتابه عن السعادة، التي يقول فيها: «يمكننا تأكيد أننا توصلنا إلى معنى مهم، وهو أن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء ما لا يمكن الحصول عليه». وبكل بساطة ربما يقرر هؤلاء الانتصار لمقولة الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو في كتابه "دين الفطرة": «أتمنى يا ولدي أن تعرف يوما مثلي كم يشعر المرء بالراحة عندما يكون قد وقف على تفاهة كل النظريات البشرية، ذاق مرارة الشهوات، ووجد أخيرا كم قريب منه باب الحكمة جزاء جهوده في الدنيا وأصل السعادة التي طالما يئس من وجودها».
مهما تكن الخلفيات الكامنة وراء نشأة هذا التوجه الفكري/الحياتي الجديد، وسواء قدّم رواده إطارا نظريا لمذهبهم -الذي يزداد أتباعه يوما بعد آخر في العالم الغربي- أم لا، فلا شك من أنه نزعة تمردية ضد سورياليات ما بعد الحداثة وبهلوانياتها الفارغة من أي مضمون.. لكن السؤال الذي يتكرر على غرار تلك النزعات السابقة هو ما مدى قدرة هذا التوجه على الصمود؟
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون