المشراق

وفاة النّحاس .. وخطر الجهل

وفاة النّحاس .. وخطر الجهل

أبو جعفر النحاس، أحمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، النحوي المصري، من كبار علماء العربية. رحل إلى بغداد وأخذ العلم عن الأخفش الصغير والمبرد ونفطويه والزجاج وعاد إلى مصر وصنف كتبا كثيرة منها: إعراب القرآن، معاني القرآن، والكافي في العربية، والمقنع في اختلاف البصريين والكوفيين، شرح المعلقات، شرح المفضليات، شرح أبيات الكتاب، الاشتقاق، أدب الكتاب وغير ذلك. وقلمه أحسن من لسانه وكان لا ينكر أن يسأل أهل النظر ويناقشهم عما أشكل عليه في تصانيفه.
وفاة هذا العالم الجليل غريبة عجيبة، تبين لنا خطر الجهل، إذ تذكر كتب تراجم النحاة أن أبا جعفر النحاس جلس على درج القياس بالنيل يقطع شيئا من الشعر تقطيعا عروضيا، فسمعه جاهل فقال: هذا يسحر النيل حتى لا يزيد فدفعه برجله فغرق وذلك في ذي الحجة سنة (338) للهجرة.
وتذكرنا هذه القصة بما حدث للأديب والشاعر والمخترع عباس بن فرناس، صاحب محاولة الطيران الشهيرة، الذي حوكم بتهمة الزندقة والكفر، بعدما ثار عليه مجموعة من الجهلة، وأرادوا إراقة دمه، لولا أن الله أنقذه بقاض عالم على درجة كبيرة من الوعي والإدراك، يقول محمد عنان: "على أن أعجب صفحة في حياة ابن فرناس، وأكثرها إيلاما هي محاكمته الشهيرة بتهمة الزندقة والكفر، فقد أثار هذا العلامة الفذ ببحوثه واختراعاته العلمية الفريدة, حسد الفقهاء وشكوكهم، كما أثارت بحوثه الكيميائية والفلكية بداره بالربض الغربي من قرطبة ثم محاولته للطيران، ظنون الكافة ودهشتهم، واعتقادهم أن الرجل مارق، يتمتع بقوى شيطانية خارقة، وقد أثمرت سعاية خصومه من الفقهاء وغيرهم في النهاية إلى اتهامه بالكفر والزندقة، وإتيان الخوارق الشيطانية، فاعتقل وقدم للمحاكمة، أمام قاضي قرطبة سليمان بن أسود الغافقي، وعقدت المحاكمة بالمسجد الجامع، وهرع الناس لشهودها، واجتمع حشد من العامة للشهود عليه. وقد نقل إلينا المؤرخ المعاصر بعض أقوال أولئك الشهود، فمنهم من قال: سمعت ابن فرناس يقول: "مفاعيل مفاعيل"، ومنهم من قال: "رأيت الدم تفور من قناة داره ليلة ينير" إلى غير ذلك مما يصفه المؤرخ "بأحموقات من غتراء شهود عليه ذوى جهل وفدامة"، وكان القاضي سليمان بن أسود رغم صرامته، ذهنا مستنيرا، فلم ترقه تلك الترهات، ولم يجد فيها طائلا، فشاور جماعة الفقهاء، فيما قيد منها، ولم يجد سبيلا إلى مؤاخذة ابن فرناس، وقضى ببراءته وإطلاق سراحه".
ولعله يحق لنا أن نردد مع الشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس:

ما يَبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يَبْلغَ الجاهلُ من نَفْسِه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق