Author

منظومة التفكير أمام قرار الاختيار

|

كثيرا ما نجد أنفسنا أمام حالة اختيار، يطلب أن نتخذ فيها قرارا مناسبا. وحالات الاختيار في حياتنا كثيرة: فقد نكون أمام اختيار سلعة نود شراءها، كاختيار سيارة بين عدة أنواع من السيارات المتاحة والمتنافسة؛ أو نكون أمام اختيار موظف لوظيفة محددة بين عدد من المرشحين المتنافسين؛ أو نكون أمام اختيار حل لقضية نواجهها بين عدد من الحلول الممكنة، مثل اختيار مسيرة التخصص الدراسي؛ أو نكون أمام أي حالة اختيار أخرى، نحتاج إلى أن نتخذ قرار الاختيار بشأنها، وأن يكون هذا الاختيار هو الأنسب لما نريد، بين ما هو متاح.
وقد نجد في كثير من حالات الاختيار أن جميع الاختيارات المتاحة لا تحقق الحل الأمثل الذي نتطلع إليه، لكننا مع ذلك نكون، أمام منطق الضرورة، في حاجة إلى اختيار الأنسب المتاح، أي الأكثر قدرة على تحقيق المتطلبات المنشودة بين الاختيارات المتاحة. وعلى ذلك، قد لا تتوافر لقرار الاختيار عادة الحرية المطلقة في الوصول إلى الوضع الأمثل، وإنما تتوافر له حرية محدودة، تتمثل حدودها، في ما هو متاح. أي أن مثل هذه الحرية تزداد مع ازدياد عدد الاختيارات، وتتقلص مع انخفاضها، وتتوارى عندما يكون هناك اختيار واحد لا بد منه؛ بل وتضيع مسألة الاختيار تماما، عندما لا يكون هناك أي اختيار متاح. لكن مثل هذا الأمر غالبا ما يكون نادرا، مع تنافس السلع في الأسواق، والأشخاص على الوظائف، والحلول للمشاكل، وغير ذلك، في مختلف مجالات الحياة.
يحتاج قرار الاختيار عموما إلى تفكير سليم؛ أي إلى إعمال منظومة التفكير في الأمر للوصول إلى النتائج المرجوة. وقد طرحنا هذه المنظومة في أكثر من مقال سابق؛ وذكرنا أن لها ثلاثة محاور رئيسة، إلى جانب البيئة المحيطة بها. المحور الأول في المنظومة هو منطلقات التفكير؛ والثاني هو رؤية المشهد؛ والثالث هو المعالجة الفكرية. وسنطرح فيما يلي آلية اتخاذ قرار الاختيار من خلال هذه المحاور، وذلك على أساس بيان حالتين للأمر تختلف بينهما المنطلقات؛ وسنعتبر أن البيئة المحيطة هي الإطار الذي تتوافر فيه الاختيارات المتاحة، حيث تتوسع أو تتقلص حرية الاختيار تبعا لها.
كي نتخذ قرار الاختيار، على أساس منظومة التفكير، سنفترض أننا أمام اختيار سلعة نحتاج إليها بين عدد من السلع المتشابهة التي تتيحها البيئة المحيطة. ونبدأ بالحالة الأولى، حيث تقضي المنطلقات بالنظر إلى مشهد الاختيار بحيادية، أي دون تمييز أو تفضيل لعناصر معينة في صفات السلعة المطلوبة عن عناصر أخرى فيها.
في النظر إلى مشهد الاختيارات المتاحة، علينا أولا تحديد عناصر صفات السلع المتشابهة المتاحة للاختيار، فإذا كنا أمام مشهد اختيار سيارة، فإن صفات مثل الشكل، والمحرك، والضمان، والصيانة، وانخفاض التكاليف، والعلامة التجارية، وغيرها يجب أن تؤخذ في الاعتبار. ثم علينا بعد ذلك أن نحدد صفات كل سلعة من السلع المتاحة على أساس هذه العناصر. وقد تتمتع بعض السلع بصفات ترتبط بعنصر إضافي يسعى إلى تميزها عن السلع الأخرى؛ وعلى ذلك يجب إضافة عنصر تميز إضافي في رؤية مشهد الاختيارات المتاحة، كي تكون النظرة إلى المشهد متكاملة، ومن جميع الجوانب.
ونأتي إلى المعالجة الفكرية للمشهد من أجل اتخاذ القرار المناسب. ونستطيع هنا أن نقيم صفة كل سلعة، من السلع المتاحة، تبعا لكل عنصر من عناصر الصفات المحددة، بما في ذلك عنصر التميز الإضافي. ولا بد لتقييم صفة كل عنصر، من أجل كل سلعة، من درجة عددية تحدد مدى جودة صفة هذا العنصر في السلعة. وهكذا يكون أمامنا، لكل اختيار متاح، قائمة بالدرجات العددية لصفاته على أساس عناصر الصفات المحددة. ويبرز النظر إلى مجموع الدرجات التي حصلت عليها السلع المتاحة لصفاتها، مدى تفوق سلعة معينة متاحة على السلع الأخرى. وهنا يأتي قرار الاختيار في مصلحة هذه السلعة.
يلاحظ فيما سبق، أن الاختيار وقع على سلعة معينة على أساس حيادية المنطلقات في النظر إلى عناصر الصفات، أي النظر إليها دون تمييز لمدى أهمية كل عنصر. ولأن هذا الأمر ليس عمليا على أرض الواقع، علينا أن ننتقل إلى حالة ثانية لاتخاذ القرار في إطار المسألة المطروحة، ولكن على أساس تغيير المنطلقات، حيث لا تكون حيادية، وإنما شخصية تعطي أهمية مختلفة لكل عنصر من عناصر الصفات، أي تعتبر أن بعض عناصر الصفات أكثر أهمية من صفات أخرى لصاحب قرار الاختيار. ومثال ذلك إعطاء أهمية أكبر لعنصر انخفاض تكاليف السلعة للشخص الذي يضع ميزانية أقل للسلعة المطلوبة؛ أو ربما أهمية أكبر للعلامة التجارية لمن يود أن يتمتع بمظهر خاص.
في تحديد وزن أهمية عناصر الصفات، وكما هو الحال في تقييم صفات السلع عدديا، يمكن تقييم وزن أهمية عناصر الصفات عدديا أيضا. وعلى أساس القيمة العددية لأهمية كل عنصر تتضاعف القيمة العددية للصفة المرتبطة بهذا العنصر من أجل السلع المتاحة؛ ويختلف بالتالي مدى تأثير صفات السلع في محصلة تقييمها، وبالتالي في تحديد الأفضل من بينها. وغالبا ما تبرز في نتيجة الاختيار سلع تختلف عن حالة السلعة المختارة على أساس المنطلقات الحيادية، وتختلف أيضا تبعا للمنطلقات الشخصية لهذا الشخص أو ذاك. وهكذا نجد قرارات مختلفة أمام كل قضية اختيار، تبعا لمنطلقات صاحب القرار. ولا شك أن في مثل هذه التعددية خيرا، حيث تجد كل سلعة مطروحة في السوق من يفضلها على سلعة مثيلة لها.
حياتنا مليئة بحالات تحتاج إلى قرارات، وبين هذه القرارات كثير من قرارات الاختيار في شتى المجالات. وعلينا العودة إلى منظومة التفكير في كل قرار نتخذه، ننظر إلى المنطلقات، ونبحث في مشهد القضية المطروحة في إطار البيئة المحيطة، ونحدد آلية المعالجة الفكرية، وصولا إلى قرارات سليمة تناسب المنطلقات. وعلينا ملاحظة أن القرارات يمكن أن تتغير تبعا للمنطلقات، حتى وإن تطابقت العوامل الأخرى، ولعل ذلك يساعدنا على فهم قرارات الآخرين، وعلى التعامل معهم، بما يحقق تطلعاتنا. نريد لأنفسنا قرارات سليمة، ونريد أن نكون قادرين على فهم الآخرين والتعامل معهم.

إنشرها