ثقافة وفنون

العم خوان .. أحبَّ المغرب ورفض جائزة القذافي صونا لأدبه

العم خوان .. أحبَّ المغرب ورفض جائزة القذافي صونا لأدبه

خوان جويتيسولو أديب من طينة فريدة، أسلم روحه الأسبوع الماضي، في بيته العتيق في المدينة القديمة في مراكش عن سن يناهز 86 سنة. مات جسديا، لكنه ثقافيا وفكريا سيظل حيا في ما خلّفه من سيرة وكتب ومواقف، ستُبقي اسمه محفورا في ذاكرة أجيال وأجيال.
سيتذكره العالم طويلا، وبشكل خاص العرب والمغاربة، لما له من مواقف خالدة وانتصارات تاريخية لقضايا العرب والمسلمين والإنسانية بصفة عامة. ما حدا بمدينة "إليخيدو" جنوب إسبانيا إلى اعتباره شخصية غير مرغوب فيها، بسبب تنديده باعتداءات عنصرية خطيرة، كانت قد تعرضت لها الجالية المسلمة في تلك المدينة.
ولد "عمي خوان" كما يلقبه صبية المدينة القديمة في مراكش، في مدينة برشلونة في ثلاثينيات القرن الماضي، ضمن أسرة عريقة في الإبداع الأدبي. فأخوه الأصغر، لويس من أكبر أدباء إسبانيا. بينما يعد الراحل أجوستين قامة كبيرة في الشعر والترجمة الكطلانيين.
أثارت كتابات ومواقف الرجل جدلا في إسبانيا وخارجها، وتعود أصول القصة إلى طفولته عندما قتلت والدته بسبب هجوم لقوات فرانكو، ما وضعه على سكة التمرد منذ صباه من خلال الكتابة ضد نظام الجنرال، الذي حظر أعماله، لما تتضمنه من نقد لاذع للأوضاع في إسبانيا، وتحريضه على خوض مغامرة الحرية.
لم يقتصر انتصاره للحرية على بلاده بل امتد خارجها، حين رفض عام 2009 جائزة الزعيم الليبي معمر القذافي العالمية للأدب؛ تقدر قيمتها بأزيد من 200 ألف دولار، قائلا: "لا يمكن أن أحمل جائزة تحمل اسم ديكتاتور، القذافي ليس ديكتاتورا، إنه وحش".
موقف ليس بالأمر الغريب ممن أطر حياته في قالب اختاره لنفسه حين صرح قائلا: «لا أكتب لكسب قوتي، بل أكسب قوتي لأستمر في الكتابة حرا بلا قيود. أنا كاتب الأقليات، ولم أطمح يوما لأكون كاتبا مشهورا أو كثير القرّاء. أنا أبحث عن قارئ يعيد قراءة ما أكتب، وهذا يكفيني، لم أرضخ يوما لديكتاتورية الجمهور، ولا لديكتاتورية دور النشر».
لم يتخل عاشق مراكش عن النفس النقدي حتى في غمرة تتويجه بجائزة سيرفانتيس -أرقى جائزة أدبية باللغة الإسبانية-، وهو يلقي خطابه بين يدي الملك فيلبي السادس، حين قسم الكُتاب إلى صنفين: أحدهما يبحث عن الشهرة والاعتراف، والآخر يكتب من أجل الإبداع.
مستطردا أن الظروف الحالية، لا يمكن أن تترك الكاتب بلا موقف، إذ المفروض أن يضع قلمه في خدمة العدالة الاجتماعية، والالتزام بقضايا المجتمع. وهو ما أقدم عليه؛ في حضرة الملك، حين ندّد بما يجري في إسبانيا من "دكتاتورية الهندسة المالية" التي أفقرت وشردت الشعب الإسباني. مختتما خطابه القصير والمشحون برسائل سياسية بقوله: «إن ثناء المؤسسة الأدبية علي يقودني دائما إلى الشك في نفسي».
بدأ جويتيسولو الكتابة في ريعان شبابه، وعمره لم يتجاوز 23 سنة، وكانت أولى رواياته بعنوان "لعبة الأيدي" (1954) التي وضعته حينها في مصاف كتَّاب الواقعية السّحرية غداة الحرب. لكن اسمه سيلمع مع روايته "علامات هويّة" (1966)، حيث كانت بمثابة الإعلان الحقيقي عن روائي لا يشق له غبار، وفيها قدم عهد فرانكو بنظرة سوداوية على لسان البطل الذي كان في الواقع يعبّر وينطق باسم الأنا الآخر للكاتب نفسه.
نشر الراحل أكثر من أربعين كتابا في أجناس أدبية متعددة، خصص جزءا كبيرا منها للثقافة العربية الاسلامية والمغربية، فقد أهدى مراكش الحمراء روايته الكبرى «مقبرة» (1980)، وخص المغاربة بكتاب عن قضيته الأولى بعنوان «مشكلة الصحراء» (1979)، وأبرز في كتابه «من دار السكة إلى مكة» (1997) اهتمامه وقلقه بشأن العلاقة بين الغرب والإسلام. ويبقى أشهرها كتابه المُترجم للغة العربية سنة 2008 بعنوان «إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العقد»، وفيه يُدافع فيه عن الثقافة العربية، ودورها في التقريب بين الشعوب.
جدير ذكره أن خوان يكنّ محبة وتقديرا كبرين للثقافة العربية، ويشعر بإعجاب كبير نحوها في مختلف مجالات الفكر والخلق والإبداع، وعن ذلك يقول: «إن استيعابي وتمثلي للفضول الأوروبي الشره جعلني أتحول شيئا فشيئا إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة والثقافات، واللغات من مختلف المناطق الجغرافية. لا ينحصر عشقي وإعجابي وَوَلَهيِ بكيبيدو أو جونجورا أو ستيرن أو فولتير أو مالارميه أو جويس، بل يتعداه كذلك إلى ابن عربي وأبي نواس وابن حزم وجلال الدين الرومي».
ويضيف: «أعتقد أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق دون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية، وكلّما دخلت في هذه الثقافة، تتأكد لي بشكل جلي قيمة وأهمية ما ورثناه عنها في شبه الجزيرة الإيبيرية». وفي السياق ذاته يردف قائلا: «هناك من ناحية أخرى جانب المودّة في العلاقات الإنسانية، التي انعدمت في المجتمع الأوروبي، الذي أعيش فيه وأنتمي إليه. ففي مدينة مراكش، على سبيل المثال، يمكنني أن أكتب وأن أقرأ، كما يمكنني في الوقت ذاته الخروج للنّزهة والتحدّث إلى الناس البسطاء، وليس مثل ما هو عليه الأمر في باريس ونيويورك اللتين انعدمت فيهما العلاقات الإنسانية وتلاشت».
ختاما بقي أن نشير إلى أن الإنسانية تدين إلى صديق العرب بمعركته ضد الرأسماليين، ممن تكالبوا على ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش قصد تحويلها إلى حي سياحي عصري، حيث ناضل ضد مشروعهم بمعية مثقفين مغاربة حتى أقرت اليونسكو سنة 2001 ساحة جامع الفنا تراثا إنسانيا شفويا. وقد منحته شرف كتابة نص إعلان الساحة ضمن التراث الشفوي الإنساني.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون