Author

من أين كل هذه الثروة؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

من الصعوبة بمكان إخفاء الثروة. الأثرياء بصورة عامة يحبون الظهور. وفي الغالب أول عمل يقومون به بعد دخولهم نادي الأثرياء هو تغيير أسلوب حياتهم من مأكل وملبس ومسكن، وحتى التصرف مع الآخرين.
والثراء يجذب الأنظار. دول الخليج العربي ثرية جدا ولهذا صارت محط أنظار العالم. المال يجلب الانتباه، لأن الناس بصورة عامة تتصرف أو تسلك طرقا تتماشى مع طبيعة وحجم الثروة التي بحوزتها.
لن أغوص في أعماق النفس البشرية عندما تتكدس لديها الأموال. قد يكون هذا موضوعا لرسالة مقبلة، بعون الله.
في المقال هذا أريد التركيز على ثروة الشركات، وكيف يمكن لشركة واحدة مثلا أن يتجاوز سعرها "قيمتها السوقية" قيمة الإنتاج الوطني الإجمالي لدول مثل هولندا أو سويسرا أو السويد أو تركيا.
هنا أتحدث عن القيمة السوقية لشركة أبل Apple الأمريكية التي تبلغ نحو 800 مليار دولار.
وفي هذه الأيام صارت شركة أمريكية أخرى ـــ أمازون Amazon ـــ محط أنظار العالم عندما وصل سعر السهم الواحد فيها إلى 1000 دولار. هذه الشركة تعنى بصورة رئيسة بالتجارة الإلكترونية وتأسست في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أي قبل نحو 22 عاما.
عندما طرحت أسهمها للاكتتاب في عام 1998 أي بعد ثلاث سنوات من تأسيسها، بيع السهم عندئذ بـ 18 دولارا. وبحساب بسيط المستثمر الذي اشترى مثلا ألف سهم تكون عندئذ قد كلفته 18 ألف دولار. إن أراد بيعها اليوم لحصل على مليون دولار.
وطوال السنين هذه منذ شرائه أسهمه، يكون قد حصل سنويا على مبلغ من المال وهو عائد "ربح" كل سهم له في الشركة.
لا أعلم كم صاحب سهم صار مليونيرا بعد أن قفز سعر سهم "أمازون" إلى ألف دولار، لكن لا بد أن تكون أعدادهم كبيرة جدا.
زيادة سعر السهم تؤدي إلى زيادة قيمة الشركة المالكة له، ومن خلال القفزة هذه صارت "أمازون" رابع شركة أمريكية من حيث القيمة السوقية التي بلغت 478 مليار دولار.
أكثر الشركات الأمريكية ثراء هي "أبل" حيث تبلغ قيمتها السوقية نحو 800 مليار دولار وتعقبها "جوجل" "681 مليار دولار"، ومن ثم مايكروسوفت "543 مليار دولار"، وتأتي "أمازون" في المرتبة الرابعة.
وستشكل هذه الشركات الأربع فقط الاقتصاد السابع في العالم إن قارنا قيمتها السوقية بقيمة الإنتاج المحلي الإجمالي للدول في العالم.
ما يميز هذه الشركات وشقيقاتها أن عمرها لا يتجاوز ربع قرن. في فترة قصيرة مثل هذه أضافت إلى الاقتصاد الأمريكي ما لم يكن في الحسبان، ولم يتوقعه علماء الاقتصاد وأفضل مراكز البحث في العالم.
قوة أمريكا اليوم تنبع من الثورة الرقمية التي تتبوأ عرشها. بفضل هذه الشركات وصلت الثروة في أمريكا "قيمة الإنتاج" إلى أرقام خيالية تتجاوز 18 تريليون دولار، وهو أكثر من ستة أضعاف مجمل الاقتصاد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الثورة الصناعية الحالية الرقمية وتكنولوجيا المعلومات أثرت بشكل مباشر في تعزيز الإنتاج في الحلقات الاقتصادية التقليدية. قلما تطرح المصانع منتجا إلا وكان للشركات الأربع وشقيقاتها حصة فيه.
هل هذا جزء من الحلم الأمريكي؟ لا أظن، لأن أغلب الشركات العملاقة الحديثة التي ظهرت في العقدين أو الثلاثة الأخيرة أسسها أناس إما من خلال الصدفة أو بعد فشلهم في مسارات علمية وفكرية أرادوا اقتحامها.
هذه الشركات تختلف كثيرا عن الشركات الريعية. شركات مثل "أبل" و"أمازون" و"جوجل" و"مايكروسوفت" تستند في وجودها وحماية نسفها إلى الخلق والإبداع والشفافية في كل حلقة من حلقات عملها. الشركات الريعية راكدة، خامدة، تفتقر إلى الخلق والإبداع وتعاني في الغالب غياب الشفافية.
لم يشهد التاريخ تراكم الثروة بهذا الشكل الخرافي في يد عدد محدد من الشركات، ومجموعة محددة من الناس، وفي يد دولة واحدة.

إنشرها