Author

منطقتنا .. واحتفالية الاستهلاك

|
لو غاب المرء عن شارع ثم مر به بعد فترة من الزمن لوجد فيه تغيرات واضحة المعالم، لها طابع مميز، لا تخطئه العين، هذا الطابع يتمثل في محال تجارية، ذات طابع استهلاكي، وغير إنتاجي، أي يجد مطاعم بجوار بعضها، وتموينات، ومحال ملابس، وأحذية، وغيرها من المستلزمات الرجالية، أو النسائية، وتتحول هذه المحال، أو أحدها إلى مكان تجمع يتكدس فيه الناس، يتزاحمون، ويتسابقون في الشراء، حتى ليخيل للمرء أن هؤلاء الناس لا يوجد شيء في بيوتهم، بل إن الأمر يتحول إلى حديث الناس، ليس على مستوى الحي، أو المناطق المجاورة، بل على مستوى المدينة ليتحول المكان إلى وجهة، ومقصد الكثيرين. أبراج، ومجمعات تجارية ضخمة، أصبحت تنمو، وتنبت كما ينبت الزرع، بين فينة وأخرى، بسرعة عجيبة، في مدن منطقتنا، وتنافس وسباق عجيب، وكأن الناس يسارعون الزمن، خاصة في زمن توافرت فيه السيولة في أيدي الناس، ما زاد من القوة الشرائية لديهم، ومكنهم من شراء ما يحتاجون، وما لا يحتاجون، حتى ليلح عليك سؤال: من يتسوق في هذه المجمعات على كثرتها؟ خاصة في مدن محدودة السكان. لكن المفاجأة تتحقق حين يدلف المرء إلى إحدى هذه الأسواق، حيث يرى الجموع من الناس يتسوقون، وتمتلئ بهم المطاعم، بصورة لافتة، كما لو أن البضائع على وشك النفاد، أو أن الناس قد جاؤوا من مناطق ضربتها المجاعة. دبي بمجمعاتها الضخمة، كسوق الإمارات، وسوق دبي، وسوق العالم المزمع إنشاؤه ليكون أكبر سوق ليس في المنطقة، بل في العالم، أماكن مغرية إلى حد كبير، ليس لأبناء الإمارات، والمنطقة، وإنما لزوار أجانب يفدون من كل حدب وصوب في هذا العالم، وهذا ما يشاهد في واقع الحال، من تنوع في جنسيات، وألوان الموجودين في أي سوق، حيث يرى المرء سكان الأرض، بجميع اللغات، والأشكال، والثقافات. لماذا هذا التوجه في معظم دول المنطقة، نحو هذا النوع من النشاط، حيث التنافس على هذه المنتجات الاستهلاكية البحتة في المملكة، وقطر، والإمارات، وإلى حد ما الكويت، ولا نرى تنافسا لدى المستثمرين على الاقتصاديات الحقيقية التي تنتج سلعا، يمكن تصديرها للخارج، لتكون رافدا قويا لاقتصاديات دول المنطقة، بدلا من تحولنا إلى مستهلكين شرهين لسلع الآخرين ومنتجاتهم؟! ما من شك أن صناعة الترفيه من تسوق، ومطاعم، ومدن ترفيهية يؤمها الناس تمثل أسهل، وأيسر طريق لجمع المال، خاصة أنها لا تحتاج إلى تلك الخبرة التي تحتاج إليها الصناعات الحربية، والمدنية، كصناعة الطائرات، والقطارات، والأواني، والأثاث، والملابس، بل إن الصناعات الوطنية القديمة، كالملابس، والأواني، والأثاث بدأت تنقرض، وتنزوي في أماكن محدودة، ولم يعد لها حضور إلا في المتاحف، وفي المناسبات التي يتم فيها تعليل النفس، وإطراؤها بأن للوطن منتجات، وأن لهذه المنتجات تاريخا، ولذا نجعل من برنامج الضيوف الاطلاع على هذه الأشياء، وهذا جميل في حد ذاته، لكن الأجمل مسايرة الحياة في جديدها، وإبداعاتها لنشارك العالم بأسره، وننافسه بمنتجاتنا التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية، ونغزو أسواقه، ونراه يستخدمها، ويسعى لاقتنائها لجودتها، ومناسبتها له، كما يفعل في غزو أسواقنا بمنتجاته التي لا حصر لها. عندما ننتج سياراتنا الخاصة، وطائراتنا الخاصة، وقطاراتنا الخاصة، ومنتجات أثاثنا، وأوانينا، والملابس، إضافة إلى المنتجات التقنية الدقيقة، بجودة عالية، ونصر على استخدامها، ونعتز بها ونفتخر، ستجد طريقها إلى أسواق العالم لتكون منافسا قويا، حتى لو اتخذت إجراءات حمائية، فبترولنا يصل لكل أوطان العالم، مع ما اتخذ من ضرائب الكربون، والتلوث التي فرضتها أوروبا، وأمريكا. تنفذ في كل أنحاء العالم مشاريع ضخمة في البنى التحتية، ومصانع الإنتاج، والمصافي ومحطات التحلية وغيرها تكلف المليارات، يتنافس على تنفيذها عديد من الشركات، وغالبا شركات وطنية، لما لديها من خبرة، وإمكانات مادية، وكوادر بشرية عالية التأهيل، كما تنفذ لدينا مشاريع تفوز بها في الغالب شركات أجنبية، مع ما يترتب على ذلك من خروج أموال طائلة من الوطن، ووظائف يستفيد منها الآخرون، وافتقاد فرصة اكتساب الخبرة لدى أبنائنا رجال المستقبل وعدته، وما كان هذا ليحدث لولا افتقادنا قيمة الإنتاج. التوجه في الأنشطة الاستهلاكية في المنطقة يمثل ثقافة مكتسبة تشكلت عبر العقود الماضية أسهم فيها إعلام يقوم على الدعاية المحفزة للاستهلاك الجائر، واقتصاد ريعي يعتمد على مواد طبيعية كالنفط، والغاز، مع غياب للمؤسسة التعليمية، والتربوية التي يفترض فيها غرس حب الإنتاج، وربط مفهوم الإنتاج بقيمنا الدينية، الحاثة على العمل، وتأصيل مفهوم الانتماء الحقيقي.
إنشرها