Author

كلمات لا تصدأ

|
التقيت شخصا مرة ثانية بعد لقاء عابر وقصير جمعنا قبل 11 عاما. استقبلني بحفاوة وحرارة كأنه شقيقي الذي نشأت وعشت معه في مكان واحد وشاهدني بعد غياب. كان كريما وسخيا معي طوال لقائنا الأخير بشكل أثار سعادتي ودهشتي معا. اجتاحتني أسئلة عديدة تصطخب في رأسي مثل: ما سر هذا الاحتفاء الكبير؟ ماذا قدمت له ليغدقني باهتمامه وحرصه واستقباله الدافئ؟ هل يريد مني شيئا ليمنحني هذا السيل الجارف من الامتنان والمودة؟ أسئلة حادة كادت تمزق رأسي. خرجت هذه الأسئلة كحمم بركانية خامدة، وتدفقت أمامه فجأة على صيغة سؤال حار ولاسع: "أُثمّن كل كلمة سكبتها وسبكتها في حقي. أجدني عاجزا عن الرد والتعليق، وعاجزا أيضا عن اكتشاف سر اهتمامك الغزير ولطفك الغفير تجاهي رغم أن علاقتنا طفيفة". أجابني بعد أن استكمل ضيافته الحاتمية بمناولتي كوب قهوة يتطاير منه الدخان ومن عيني الترقب: "فعلا يا عبدالله، جمعني معك لقاء يتيم وموجز، لكن كلمتين كتبتهما لي في إيميلك قبل سنوات ردا على بحث كتبته وعرضته عليك للاطلاع عليه ما زالت راسخة في ذهني وتقطن صدري". لم أصبر، قاطعته: "ما الكلمتان؟". رد عليّ وهو يبتسم: "كتبت لي أنت مبدع". أخبرني أن هاتين الكلمتين رفعتا معنوياته كثيرا ذلك اليوم، وجعلتاه يحب بحثه أكثر". خنقتني العَبَرة عندما استرجع هذا الموقف أمامي؛ لأني اكتشفت كم أنا وغيري مقصرون تجاه الجمال الذي ينتشر أمامنا دون أن نعيره اهتمامنا وكلماتنا وحبنا. أصبحنا كالآلات نكتب للدراسة أو العمل. نحبس مشاعرنا وأحاسيسنا حتى ذبلت، ويبست أطرافنا فلم تعد قادرة على الهطول والمطر. يا الله. كلمتان قصيرتان تصنعان بهجة في قلب شخص وما زلنا نبخل بهما على من حولنا. كم أيقظني هذا الموقف ودعاني إلى تذكير نفسي بمصافحة القريب والبعيد بكلمات تليق بإنجازاتهم وإبداعاتهم ولطفهم وابتساماتهم. لن أطلب مني ومنكم كلمتين نوجههما ونزرعهما في آذان وأفئدة الآخرين. كلمة واحدة كافية، كافية جدا متى ما كانت نابعة من القلب. درب يدك ولسانك على الكلام الرقيق حتى لا تصدأ العبارات الأنيقة في جوفك، وتحرم عيوننا البريق. عندما تبذر كلمة حلوة في صدر أحد ما، فهذه البذور لن تخذلك أبدا. تغرسها جذرا، فترتفع جذعا.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها