FINANCIAL TIMES

«فيكس» .. مؤشر الخوف يتحول إلى سوق معقدة بمليارات الدولارات

«فيكس» .. مؤشر الخوف يتحول إلى سوق معقدة بمليارات الدولارات

في عام 1992، أستاذ جامعي للعلوم المالية من عشاق المطرب بوب ديلان يدعى روبرت ويلي اجتث أصول عائلته من الولايات المتحدة وانتقل للعيش في قرية صغيرة في منطقة بيرغندي الريفية في فرنسا. أمضى هناك ستة أشهر وهو منهمك في إرساء أشهر القواعد وأكثرها شيوعا لتصوير الإجهاد في صناعة التمويل.
الاسم الرسمي لهذا التصوير هو مؤشر تقلبات البورصة لمجلس الخيارات في شيكاغو، المعروف اختصارا باسم "فيكس". لكن بالنسبة لآلاف المتداولين والمستثمرين والممولين، أصبح في النهاية يعرف باسم "مقياس الخوف" في وول ستريت، وهو تمثيل رقمي واضح لمدى شعور الأسواق المالية بالفزع أو الارتياح.
كان التقلب في الماضي مجرد مقياس رياضي للمستثمرين يشير إلى مدى شدة تحرك الأسواق. اليوم التقلب سوق معقدة قيمتها مليارات الدولارات في حد ذاتها، يخوضها الجميع بدءا من صناديق التحوط المتطورة وصولا إلى المتداولين العاديين أثناء التداولات اليومية. اكتسب مؤشر فيكس صفة النجومية، حتى أنه مصدر إلهام لإحدى روايات الإثارة الرائجة التي تدور حول صندوق تحوط مدعوم بالذكاء الاصطناعي يحمل اسم "فيكسال فور" ويعيث في الأرض فسادا (عنوان الرواية "مؤشر الخوف" للكاتب البريطاني روبرت هاريس).
لكن فيكس هو أيضا واحد من أكبر الألغاز في الصناعة المالية. المرحلة الحالية يفترض فيها أن تكون لحظة التعرض لخطر محتمل بالنسبة للأسواق، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، ووجود شخص شعبوي من خارج المؤسسة في البيت الأبيض. مع ذلك، بقي فيكس هادئا إلى حد كبير. على الرغم من وصوله إلى مستويات أعلى في الأسبوع الماضي. وإذا استمر الأداء الحالي، قد يكون متوسط المستوى لهذا المقياس في عام الحالي هو الأدنى على مدى تاريخه الذي يعود إلى 24 عاما.
يقول آدم سيندر، رئيس شركة سيندر وشركاه، وهي صندوق تحوط: "كان اللغز الكبير في هذا عام هو انقطاع الصلة ما بين الفوضى في واشنطن والهدوء في الأسواق".
جزئيا، تمت تهدئة مؤشر فيكس لأن سوق الأسهم الأمريكية كانت هادئة بشكل ملحوظ. فقد حظي مؤشر ستاندرد آند بورز 500 أخيرا بأطول فترة اتسمت بتجنب الانخفاضات الكبيرة التي تزيد على 1 في المائة على مدى أكثر من عقدين من الزمن. لكن تبخر التقلبات هو أيضا علامة على تغييرات هيكلية عميقة حصلت منذ الأمة المالية، مثل هيمنة البنوك المركزية والتحول الكبير إلى الصناديق المتداولة في البورصة.
مع ذلك، هذا الهدوء يثير أعصاب بعض المحللين الذين يخشون من أنه عمل على صعود مجموعة كاملة من استراتيجيات التداول التي يمكن أن تنهار إذا عاد التقلب إلى وضعه الطبيعي. حتى أن بعض المحللين يخشون من أن مؤشر فيكس الذي يفترض أنه مؤشر مبكر لنذر الخطر يستفيد منه المستثمرون، يمكن أن يسهم في اضطرابات السوق نظرا لتضافر مؤسف لمجموعة من الظروف.
قال بيتر تشير، المحلل في برين كابيتال، في مذكرته الأخيرة: "هناك شيء واحد تفعله وول ستريت بتواتر مخيف – تحويل منتج جيد ومربح إلى شيء خطير أثناء تطور دورة حياته. أعتقد أن بيع التقلبات أصبح أمرا أكثر شيوعا وهذا يشكل خطرا محتملا".

استثمار الفوضى

كان كريستوفر كول يعمل بجد واجتهاد في داخل مكتب بنك ميريل لينتش في نيويورك. كان يعمل في ترتيب هياكل السندات المعقدة الخاصة بصناديق المعاشات التقاعدية وشركات التأمين عندما وقع في غرام التقلب.
عندما بدأ لأول مرة التداول إلى جانب عمله اليومي، انجذب ذلك المحلل المالي القانوني مباشرة نحو منهج المستثمرين "ذوي القيمة" مثل وارين بافيت. لكن عندما بدأ كول بتجريب مشتقات مؤشر فيكس في عام 2006، أدرك أنه عثر على مهنته الحقيقية. يقول: "التقلب هو الشكل الأصلي للتعامل مع سيكولوجية الأسواق والاستفادة منها".
توقيته جاء عرضا. في عام 2007 بدأ انكماش قطاع الإسكان الأمريكي في إثارة الفزع في الأسواق. وبحلول عام 2008 اندلعت الأزمة المالية. بالنسبة لكول كانت فوائد الرهانات الكبيرة على التقلب مجزية، ما سمح له في عام 2009 بترك عمله لتأسيس شركة أرتيمس لإدارة الأموال، وهي صندوق تحوط يركز على التقلبات ويقول إنه يدير أصولا بقيمة 150 مليون دولار.
يقول: "لقد ولدنا حرفيا من رحم تلك الأزمة. كان الشعور رائعا في فترة كتلك الفترة أن تأخذ الفوضى وتحولها إلى شيء إيجابي".
وتظهر مآثر كول كيف ازدهر التقلب ليتحول إلى أصول قابلة للتداول. المشتقات التي بدأ في تداولها في عام 2006 كانت موجودة في السوق فقط منذ عام 2004، وتم إدخال أول صناديق متداولة في البورصة مرتبطة بمؤشر فيكس فقط في الفترة بين 2009 و2010. اليوم التقلب من فئة الأصول المتطورة والنابضة بالحياة. يقول إدوارد تيلي، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لسوق الأوراق المالية في شيكاغو: "إنه نظام بيئي مذهل إلى حد كبير".
مؤشر التقلبات في سوق شيكاغو هو علامة على المتوسط المرجح لأسعار "عقود الخيارات" على مؤشر ستاندرد آند بورز 500، أكبر مقياس للأسهم الأمريكية. عقود الخيارات هي نوع من المشتقات، التي يمكن أن تمنح المشترين الحق، وليس الالتزام، في شراء مؤشر أساسي أو أسهم منفردة بسعر معين (خيار الشراء)، أو بيع الأصول بالسعر المتفق عليه مسبقا (خيار البيع).
يتم حساب مؤشر فيكس باستخدام أسعار خيارات الشراء والبيع على مؤشر ستاندرد آند بورز 500 التي يأتي تاريخ استحقاقها تقريبا في الأيام الـ 30 التالية. وهو مهيكل حيث إنه إذا توقع المستثمرون أن تصل تقلبات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى نسبة 1 في المائة يوميا في المتوسط خلال الشهر المقبل، يكون مستوى مؤشر فيكس نحو 20 - ما يقارب متوسطه على المدى الطويل - في الوقت الذي يعني فيه الوصول إلى مستوى 40 التحرك بنسبة 2 في المائة. هذا العام بلغ متوسطه 11.7.
لا أحد يمكنه في الواقع تداول المستوى "الفوري" لمؤشر فيكس، على اعتبار أنه ليس سوى علامة على حزمة من المشتقات الأساسية. لكن سوق الأوراق المالية في شيكاغو استطاعت تطوير سوق مشتقات مستندة إلى المؤشر نفسه. واعتبارا من عام 2004 تمكن المستثمرون من تداول عقود فيكس "الآجلة" - وهي أدوات مشتقات شائعة أخرى – وبدءا من عام 2006 تمكنوا من تداول الخيارات في مؤشر فيكس.

استثمار الهدوء

في الممارسة العملية عقد الخيارات الآجلة هو واحد من أقدم العقود التي عرفتها الحضارة. وهو مجرد اتفاق بين طرفين لبيع أحد الأصول وفق سعر ووقت متفق عليهما مسبقا، سواء أكان ذلك بقرة، أو بالة من القش، أو أداة مالية. تسمح عقود فيكس الآجلة للمستثمرين بالمراهنة على التقلب بعقود يفترض أن ترتفع قيمتها عندما تتراجع سوق الأسهم.
كذلك يستخدم المهندسون الماليون عقود فيكس الآجلة لتطوير وفرة من "المنتجات التي يتم التداول بها في البورصة" والتي تسمح للمستثمرين بالمراهنة على، أو ضد مؤشر فيكس. وقد توسع مستوى شعبيتها بدرجة ضخمة في السنوات الأخيرة. في الواقع كانت منتجات مؤشر فيكس المتداولة في البورصة هي خامس المنتجات الآمنة الأكثر نشاطا في التداول في أسواق الأسهم الأمريكية العام الماضي. وكان UVXY، أقرب المنتجات إليه والذي حتى هو أكثر انغماسا في الرفع المالي، كان عاشر المنتجات الآمنة الأكثر تداولا، وفقا لبنك كريدي سويس.
لكن هذا هو التطور الذي لا يرضي مخترع هذا المؤشر، بالنظر إلى العيوب الهيكلية التي تجعل تلك المنتجات غير مناسبة لمستثمري التجزئة. شراء العقود الآجلة بشكل مستمر أمر مكلف، وعقود فيكس الآجلة تكون عادة "مكلفة مع المدة"، والعقود الأطول أجلا أكثر تكلفة من العقود قصيرة الأجل. وفي الممارسة العملية هذا يعني أن منتجات فيكس المتداولة في البورصة تظل في أغلب الأوقات تنزف ببطء حتى الموت.
يقول البوفيسور ويلي: "الفكرة جيدة، لكن القضية التي تؤرقني هي تحويل حزمة مشتقات مؤشر فيكس إلى منتجات تجزئة. هذه قضية تعلق بنزاهة السوق. أشعر بالقلق إزاء الهدف الاجتماعي لذلك. فنحن نقدم للناس منتجا متقلبا للمراهنة عليه".
وفقا لدويتشه بانك، منذ عام 2010 تدفق نحو 16 مليار دولار - معظمها من مستثمري التجزئة - إلى منتجات متعددة متداولة في البورصة تراهن على حدوث زيادات في مؤشر فيكس، بقي منها مليارا دولار فقط، بعدما تبخر الرصيد بسبب التركيبة المعقدة للمنتجات. إذا كنت قد استثمرت مليون دولار في المنتج الأول عندما أطلق في عام 2009، لكان بقي معك اليوم أقل من 600 دولار، بحسب ما يقول برافيت تشاينتاوونج فانيتش، الخبير الاستراتيجي في شركة ماكرو لاستشارات المخاطر.
مع ذلك، عملت المراهنة على تراجع التقلبات على التأثير على عائدات كل شيء تقريبا منذ الأزمة. تقوم صناديق التحوط بهذا عادة من خلال بيع عقود فيكس الآجلة الأطول أجلا على أمل أن تصل الأسعار في النهاية إلى مستوى أقل، ما يسمح لها بالاستفادة من الفارق. أكبر منتجات مؤشر فيكس على المكشوف المتداولة في البورصة والتي تحاكي هذا الواقع قدمت فائدة للمستثمرين بمكاسب تصل إلى نحو 900 في المائة منذ نهاية عام 2011. هذه المنتجات التي تعرف باسم "إكس آي في"، هي الأسهم الأكثر تداولا في العالم بحيث تحتل المرتبة 34 مع حجم يومي يصل إلى 818 مليون دولار، وفقا لـ "بلومبيرج"، ما يجعلها أنشط تداولا من أسهم الشركات العملاقة مثل شيفرون وفايزر.
لكن لماذا يكون مؤشر فيكس هادئا جدا، وكيف يمكن للمراهنة على الهدوء أن تدر كل تلك الأموال في حقبة ما بعد الأزمة التي اتسمت بالجيشان؟ الحقيقة هي أن مؤشر فيكس لم يكن منقطع الصلة بحالات التقلب الفعلية، الأمر الذي كان ملحوظا أيضا منذ عام 2009 - لمجموعة من الأسباب.
يعزو معظم المحللين هذا إلى إقدام البنوك المركزية على تزويد الأسواق بحوافز نقدية كلما تعرضت لتهديد عودة الجيشان مرة أخرى، ما دعم المستثمرين وشجعهم لأن يعتبروا كل تراجع أمامهم وكأنه فرصة للشراء.
يقول كول: "هناك جيل كامل من المتداولين الذين لا علم لهم إلا بحقبة "شراء التراجع". ويصبح هذا بعد ذلك نبوءة ذاتية التعزيز نقوم نحن حتى بتضمينها في الأسواق من خلال خوارزميات تداول آلية".
كذلك هناك تدفقات غزيرة خارجة من مديري الصناديق التقليدية ومتوجهة إلى أدوات الاستثمار السلبية، مثل أدوات تعقب المؤشرات والصناديق المدرجة في البورصة، ما يعني أن سوق الأسهم الأمريكية بأكملها تتقدم وتتراجع في انسجام، ما يضعف تقلبات الأسهم المنفردة. في الواقع جاء الهدوء والتراجع هذا عام لأن التدفقات الداخلة إلى الصناديق المدرجة في البورصة سجلت ارتفاعا آخر.
كذلك عمل انفجار ما بعد الأزمة من عمليات إعادة شراء الشركات لأسهمها على تثبيط التقلب. فقد أعادت الشركات شراء أكثر من تريليوني دولار من أسهمها في السنوات الخمس الماضية، ما يوفر دعامة حيوية للتأييد المقدم لسوق الأسهم الأوسع نطاقا. في النهاية، تعرض مؤشر فيكس للضعف بسبب عوامل فنية. بشكل متزايد تراهن صناديق التحوط، إلى جانب المستثمرين المؤسسيين التواقين إلى زيادة العائدات بانتظام، على بقاء المؤشر هادئا على المدى الطويل. ويصبح هذا الأمر ذاتي التحقق، لأن بيعهم لعقود فيكس الآجلة وخياراته يدفع سعر العقود إلى أدنى.
يقول كول: "مؤشر فيكس ليس معطوبا، بل السوق هي التي أصابها الخلل. مؤشر فيكس يشبه الشخص الذي طلق زوجته وخسر عمله، لكنه لا يزال يذهب لعمله. فهو يجلس هناك متظاهرا بالهدوء، ويؤدي عمله، لكنه يشعر في داخله بتوتر".
الاضطرابات الحقيقية

يشعر كثير من المحللين بالقلق من أن الأسواق متفائلة فوق الحد إزاء احتمال تجدد الجيشان والدمار الذي يمكن أن يعبث بالمستثمرين المتهاونين الذين كانوا يراهنون على استمرار الهدوء.
يقارن كول بين إغراء الرهانات منخفضة التقلبات وساحرات السايرين في الأساطير اليونانية، التي كانت أغنيتهن التي لا تقاوم مصدر إغراء للبحارة ليلقوا بأنفسهم في التهلكة. ويقول: "إن دعوة الساحرة بوجود خطر هي في أقوى حالاتها عندما نصل إلى أعلى مستويات الخطر". ويضيف: "نشعر بأننا نستطيع الاقتراب أكثر، لكننا أقرب كثيرا إلى تلك النقطة مما كنا عليه".
بالنسبة للناس الذين يراهنون على الهدوء، يمكن أن يكون الألم حادا حين يندلع الجيشان. مثلا، ربما كان مؤشر XIV ETP مصنعا للنقدية على مدى السنوات الخمس الماضية، لكنه هوى بنسبة 50 في المائة تقريبا خلال ثلاثة أيام تداول عاصفة فقط في أواخر آب (أغسطس) 2015. وفي الأسبوع الماضي خسر تقريبا 10 في المائة، حين أطل التقلب برأسه من جديد. حالات اندلاع الجيشان التي وقعت بعد الأزمة كانت في العادة قصيرة. لكن في حال انتهاء فترة الهدوء، يخشى بعض المحللين أنها يمكن أن تسبب أضرارا على نطاق أوسع.
المستثمرون الذين يراهنون على التقلب المنخفض سوف يعانون خسائر مدمرة ويضطرون إلى تغطية تعاملاتهم من خلال التعامل بالمكشوف في السوق الأرحب. هذا من شأنه بالتالي دفع الأسهم إلى مستوى أدنى حتى من قبل، ودفع التقلب إلى مستويات عالية مرة أخرى، ما يستثير حلقة تغذية راجعة سلبية. هذا يأخذ الآن في إثارة أعصاب بعض المستثمرين الكبار الذين يمكن أن يتعرضوا لأضرار جانبية.
يقول مايكل روبيرج، الرئيس التنفيذي المشارك وكبير الإداريين الاستثماريين في "إم إف إس"، وهي مجموعة استثمارية تتولى إدارة 450 مليار دولار، وهي التي اخترعت الصندوق المشترك قبل قرن: "هذا أمر محتوم، كل ما في الأمر أننا لا نعرف التوقيت. هناك عدد كبير للغاية من الناس الذين يبيعون التقلب إلى درجة أنه حين يأتي فإنهم يصابون بالأذى. التقلب، مثل الزنبرك، كلما ازداد الضغط الواقع عليه، يزداد مقدار الطاقة التي يطلقها حين يرفع الضغط عنه".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES