ثقافة وفنون

تبوك .. قصة التعايش والإخاء ذودا عن الوطن

تبوك .. قصة التعايش والإخاء ذودا عن الوطن

تبوك المدينة، ليست قصة طقس جميل فقط، أو وردا وثلجا، كما يلفت النظر إليها عادةً كثير من العناوين المبهورة بتمازج بياض الثلج ونقاء الصحراء. بل قصة إنسان، ضرب أروع الأمثلة في التعايش رغم تعدد المناطق التي قدم منها، محققا تجربة رائدة، إن لم تكن الأولى إطلاقا على مستوى الوطن، من حيث إعادة تشكيل المكان وتأسيسه وفقا لمرجعية وطنية، لا مكان للعصبيات القبلية أو المناطقية فيها.
"فسيفساء ثقافية" ووجهة سياحية، أدركت المجلة العربية أحقيتها، فأفردت لها ملفا خاصا في عددها الأخير، يقرأ ما بين أسطر تاريخ هذه المدينة وثقافة إنسانها، لتقدم المجلة إلى قارئها عددا مميزا يضاف إلى أعداد أخرى طالما احتفت بسير مدن العالم العربي وإنسانها؛ أعداد تُقتنى لتحفظ، وتقدم كوثيقة للأجيال القادمة وللتاريخ.
وفي افتتاحية العدد يحكي محمد السيف رئيس التحرير والمشرف العام على مركز الملك فهد الثقافي عن زيارته مدينة تبوك منذ أكثر من 15 عاما، وعن مائها، الذي "ما إن تشرب منه حتى يصعب عليك فراقها" كما قيل له من بعض كبار السن، ممن التقاهم هناك من أبناء القصيم والزلفي. والزميل السيف الذي وقف عبر تلك الزيارة على بعض أعلام المدينة، ملتقيا عددا من أبنائها، وجد تبوك، قد احتوت - عبر عقود - عديدا من أبناء المملكة، الذين قدموا إليها من مدن متعددة، من أبها والباحة، من جدة والمدينة المنورة، من الزلفي ومدن القصيم، وقد استوطنوها وأصبحوا من أبنائها، وبعضهم اليوم يمثل الجيل الثالث في الاستيطان والاستقرار.
ولعل هذا "الجيل الثالث" الذي أشار إليه السيف هو لُب هذه المدينة ونتاجها الثقافي الأهم على مستوى المدينة والدولة، بعد عقود من التعايش المجتمعي التبوكي. الذي لم تؤسس له خيرات المكان الجاذبة أو موارده الطبيعية الوافرة كما جرت العادة في كثير من المدن ذلك الوقت. بل على العكس كانت وعورة المكان وصعوبة الطقس المتقلب منفرة لكثيرين، إلا أن ميثاق شرف ضمنيا أوجدته متطلبات "الحدود" وحساسيتها الأمنية، استدعى دون ترتيب مسبق هذا التلون المناطقي والعملي دفاعا عن حمى الوطن، وذودا عن قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وما أفرزته من تهديدات تطلبت تضافر الجهود العربية ووحدتها.
ليصنع هذا التعايش يدا بيد ويوما بعد آخر كثيرا من الخيرات والبنى التحتية العسكرية والمدنية والثقافية، التي تزخر بها منطقة تبوك. "فالمكان تاريخيا أقدم من الإنسان، والإنسان بوجوده وكينونته يعيد تشكيله وتحويله إلى أشكال مختلفة حسب احتياجاته الحياتية، ووفق ثقافته". وهذا ما صنعه إنسان تبوك القادم من خلفيات متنوعة وثقافات متعددة محلية وعربية انصهرت جميعها في مكان واحد لهدف واحد وتحت قيادة واحدة، محققا أنموذجا ومثالا يُحتذى في صناعة المدن وبنائها.
تبوك المتشربة حضارات ضاربة في عمق التاريخ يمكن تداول كثير من المرويات التي تستعرض هذا الجانب عنها، ومنها ما استعرضه بالفعل ملف المجلة العربية نفسها. لكن تبقى تبوك القريبة من مواطنيها كحاضرة سعودية، تضافرت من أجل بنائها جهود المحبين والمخلصين من مختلف أبناء الوطن قصة أخرى تحتاج إلى مزيد من تفاصيل السرد وإثراء السير الفردية والجمعية. بدءا من حاراتها الشعبية التي حوت مختلف اللهجات السعودية، مرورا بنهارات أزقتها التي ازدانت صباحات أعيادها بتنوع أهازيج الوطن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وصولا إلى أماسي هضابها وسفوحها المشرفة على هذا الإخاء الوطني وتبعاته الإنسانية.
يقول الشاعر العذب عبدالله الصيخان في "ورقة تبوكية" نشرت في العدد ذاته من المجلة العربية عن صباحات "الشارع العام" عمود تبوك الفقري ذلك الوقت المعروف اليوم بجادة الأمير فهد بن سلطان "نضى الشارع العام شرشفه وصحا. كم جلستُ بناصية منه حتى استوى في يدي مسرحا أتأمل فيه الوجوه وأستتبع اللهجات". ومن أدرك طفولة تبوك يشعر بجمال هذا المسرح ويعرف قيمة تعدد لهجاته ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى العربي أيضا؛ مسرح التأم فيه ومن أجله كثير من الآمال والمطامح والذكريات. أما اليوم وبعد أن علّقت المجلة العربية الجرس، الجميع في انتظار من يروي عن تبوك، وبها ظمأ تاريخ الوطن وشغفه لعقود زانت وازدانت ببساطة اللحظات وبصادق النيات.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون