محللون غربيون: السعودية تقود قاطرة الاقتصادات الناشئة في الشرق الأوسط
تشير آخر التقارير الدولية إلى أن مساهمة الاقتصادات الناشئة والنامية بلغت نحو 80 في المائة من نمو الاقتصاد العالمي، أي قرابة ضعف مساهمتهما في هذا النمو منذ عقدين. ولا يتوقف الأمر عند هذا النمو الكمي، إذ ارتبط ذلك بتغير نوعي ملحوظ أيضا.
ويؤكد مختصون اقتصاديون غربيون أن الاقتصادات الناشئة لم تعد تقف عند كونها مراكز للإنتاج أو مراكز تجارية تقوم بتغليف وتعبئة السلع ثم شحنها للاقتصادات المتقدمة، بل إنها وفقا لتقرير صندوق النقد الدولي تكتسب أهمية متزايدة كوجهة أخيرة للسلع والخدمات الاستهلاكية التي تشكل حاليا نحو 85 في المائة من نمو الاستهلاك العالمي، أي أكثر من ضعف حصتها في تسعينيات القرن المنصرم.
ويطرح هذا التقييم عديدا من الأسئلة، يأتي في مقدمتها مدى ثبات هذا التطور؟ وهل نحن أمام ظاهرة أصيلة في الاقتصاد الدولي أم أننا نقف في مواجهة طفرة اقتصادية مؤقتة ستحتل واجهة المشهد الاقتصادي لبضع سنوات ثم تتلاشى؟
وإذا كانت تلك التطورات أصيلة وثابتة على الأمد القصير والمتوسط فما هي انعكاساتها على المنظومة الاقتصادية على الأمد الطويل؟ وإلى أي مدى لعبت الأزمات الدورية في البلدان الرأسمالية عالية التطور دورا في دفع عجلة النمو في الاقتصادات الناشئة؟ وهل يمكن أن يتآكل معدل النمو المحقق في تلك البلدان بمجرد استعادة البلدان المتطورة زمام المبادرة الاقتصادية مجددا؟
وإلى أي مدى تعد البيئة الدولية الراهنة سواء في مجال حرية التجارة أو حرية حركة رؤوس الأموال عاملا مساعدا في تحسن الأوضاع الاقتصادية في الاقتصادات الناشئة؟ وما الهامش المتاح أمام الأسواق الصاعدة لتحقيق مزيد من معدلات النمو المرتفعة في ظل التغيرات المتوقعة في البيئة الاقتصادية الدولية، مع ارتفاع معدلات الفائدة، وتعالي الأصوات الداعية لمزيد من الحمائية الاقتصادية؟
يعتقد الدكتور جون هاتون أستاذ مبادئ الاقتصاد في جامعة لندن، أن الاقتصادات الناشئة استفادت من مجموعة من العوامل الاقتصادية الخارجية، التي منحتها فرصة تاريخية لتعظيم معدلات النمو لديها إلى مستويات غير مسبوقة.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا: "الأزمة الاقتصادية في البلدان الرأسمالية عالية التطور، وسلسلة السياسات النقدية التي تبنتها عبر التيسير الكمي وخفض معدلات الفائدة، فتحت آفاقا إيجابية للاقتصادات الناشئة لتحقيق معدلات نمو مرتفعة، إذ أتاحت الفرصة لرؤوس الأموال الأجنبية بالاستثمار في تلك الاقتصادات، نظرا لارتفاع معدل الربحية لديها مقارنة بالاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، وانتقال رؤوس الأموال ترافق مع انتقال خبرات إدارية ومهارات تكنولوجية بتكلفة منخفضة للاقتصادات الناشئة والنامية".
وحول مدى ثبات معدلات النمو تلك مستقبلا، وقدرة الاقتصادات الناشئة على الحفاظ عليها في الأمد الطويل، يؤكد الدكتور جون أن الأسواق الصاعدة ستتمكن من المحافظة على نموها الراهن، طالما ظلت الأوضاع الاقتصادية في البلدان المتقدمة متذبذبة وغير مستقرة، إلا أن تراجع الاقتصادات المتطورة عن مجموعة السياسات النقدية التي تبنتها مع اندلاع الأزمة الاقتصادية عام 2008، فإن هامش المناورة الاقتصادية المتاح أمام الاقتصادات الناشئة سيتراجع، وستنكمش نسبيا على نفسها.
ويضيف: "هذا لا يعني تراجع الأسواق الصاعدة إلى المربع الأول أي ما كانت عليه في الماضي، فما نجحت في تحقيقه خلال السنوات الماضية أوجد واقعا اقتصاديا دوليا جديدا، يصعب تجاوزه أو النكوص عليه، لكن الحفاظ على المعدلات الراهنة من النمو سيتطلب تكلفة باهظة وثمنا مرتفعا للغاية، سدادها سيكون في قدرة عدد محدود للغاية من الاقتصادات الناشئة، بينما ستعجز الغالبية العظمى عن سداد تلك التكلفة، ما سيدفعها إلى الانحياز إلى خيار معدل نمو متوسط بتكلفة مقبولة اجتماعيا، أفضل من معدل نمو مرتفع بتكلفة باهظة قد ينجم عنها تقلبات اجتماعية حادة تؤدي إلى تآكل قدر كبير من إنجازاتها خلال العقدين الماضيين.
الاستشاري الاقتصادي الدكتور تيم ويليس، يعتقد أن وجهة النظر تلك تغبن الاقتصادات الناشئة حقها، وما قامت به من جهود حقيقية لتطوير قدرتها الاقتصادية، وتجعل التطور الاقتصادي في تلك البلدان محصلة للأزمة الاقتصادية في البلدان المتقدمة، وليس نتيجة جهد تنموي حقيقي من قبل الأسواق الصاعدة.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا: "نحن أمام ظاهرة نمو أصيل وثابت في الاقتصادات الناشئة، وإذ يصعب إنكار دور العوامل والمتغيرات الاقتصادية الدولية في تحقيق هذا النمو، فإنه يصعب القول إنها العامل الوحيد أو الأساسي لتحقيق قصة النجاح تلك، فما أنجزته الأسواق الصاعدة من تحسن في أطر سياستها الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية التي أدخلتها على منظومتها الاقتصادية لما يقارب العقدين، قام بدور ملموس في تحقيق النمو عبر انسجام تلك التغيرات مع البيئة الخارجية التي يسرت عملية التحول ودفع النمو".
ويشير إلى أن التحدي الذي تواجهه الاقتصادات الناشئة الآن، يتمثل في أن البيئة الخارجية لم تعد واعدة كما كان الأمر في الماضي، وباتت بيئة أكثر تعقيدا عما كان عليه الأمر في السنوات الماضية، وهو ما سيتطلب من تلك الاقتصادات اتخاذ إجراءات تصحيحية قوية في الفترة المقبلة للحفاظ على معدلات النمو التي حققتها في الماضي، وسيتطلب الأمر كذلك مزيدا من الاندماج في النظام الاقتصادي والتجاري والمالي العالمي بقوة أكثر.
وتابع: "لكن الخطورة أن ذلك يأتي في وقت تتزايد فيه النبرة العدائية من قبل الاقتصادات المتقدمة تجاه الاقتصادات الناشئة، إذ أن الاقتصادات المتقدمة بدأت في استعادت عافيتها الاقتصادية المفقودة لسنوات، وتواكب ذلك مع نبرة عدائية وعدوانية تجاه الأسواق الصاعدة، وهو ما يوتر المناخ الاقتصادي الدولي ويضع ضغوطا متزايدة على الأفق الاقتصادي للاقتصادات الناشئة".
ولا يخفى عدد كبير من المختصين قناعتهم بأن الأسواق الناشئة، ربما تكون عند مرحلة فارقة من تطورها الاقتصادي، فعدم وضوح الرؤية الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية بصورة نهائية، والتغيرات المتوقعة في السياسة المالية العالمية عبر المزيد من التضييق برفع سعر الفائدة، يمكن أن يتفاعل سلبا مع كل من الضغوطات التي تمر بها الميزانيات العامة في الأسواق الصاعدة، وحتى في بعض الاقتصادات الأوروبية المتقدمة، يضاف لذلك التوترات الجيوستراتيجية وما لها من تداعيات اقتصادية.
لكن في المقابل فإن البنية التحتية التي استثمرت فيها الاقتصادات الناشئة لسنوات، والنهم المتواصل لمزيد من الاستثمارات في البنية التحتية، التي قدرها البنك الدولي بنحو تريليون دولار سنويا، وظهور تكتلات اقتصادية لبعض الأسواق الصاعدة مثل مجموعة البريكس، التي باتت لها مؤسسات مالية ضخمة قادرة على تمويل احتياجاتها التنموية، بل وتنامي القدرة المالية للبنوك الوطنية في الاقتصادات الناشئة، جميعها عوامل تعزز قدرة الاقتصادات الناشئة على مواصلة معدلات نموها الراهن.
مع هذا لا تبدو كل الاقتصادات الناشئة قادرة على إكمال السباق بذات السرعة أو القوة، بل إن التقديرات تشير إلى أن بعضها قد يسقط أو يتراجع خلال السباق.
اندروا مار الباحث الاقتصادي في مجموعة كريستوفر آند دان للاستثمارات يقول لـ"الاقتصادية" إن ارتفاع معدلات النمو في الاقتصادات الناشئة لا ينفي تباين معدلات النمو بين البلدان المنتمية إلى تلك المجموعة، وربما تظل الصين والهند في مقدمة الركب، فالصين حققت خلال الربع الأول من هذا العام معدل نمو بلع 6.9 في المائة، وهو أعلى من المتوقع، أما الهند فالمعدل المتوقع للنمو خلال العام المالي 2017-2018 سيراوح بين 7.2 و7.7 في المائة، وعلى هذا ستواصل الهند والصين لعب دور القاطرة في جذب الاقتصاد العالمي والاقتصادات الناشئة.
ويضيف: "هناك أيضا بلدان أخرى السعودية يمكنها القيام بدور القاطرة الاقتصادية لمجموعة البلدان الناشئة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، خاصة أن مؤشرات برنامج الإصلاح الاقتصادي قد حظيت بإشادة دولية، وتأكيد السلطات على المضي في هذا البرنامج، وإحداث عملية تحول اقتصادي منهجية ومخطط لها سواء عبر فتح الأسواق المحلية للاستثمارات الدولية المنتجة، ودعم القطاع الخاص، والسعي لتنويع مصادر الدخل الوطني بعيدا عن النفط، ورفع مستوى أداء سوق المال السعودي، ومزيد من الدمج في التجارة الدولية والنظام المالي العالمي، وضخ مزيد من الدماء الشابة في منظومة سوق العمل والاستثمار، كلها عوامل تضع المملكة ضمن مجموعة الاقتصادات الناشئة التي تمثل قاطرة جذب اقتصادي".
وتابع: "في المقابل فإن الاقتصاد البرازيلي يواجه أسوأ موجة ركود اقتصادي، وذلك في وقت لا يزال هناك رحابة في الأسواق الدولية، فإذا زادت حدة الضغوط الدولية على الاقتصادات الناشئة، وارتفعت النبرة الحمائية فإن وضع البرازيل داخل الأسواق الصاعدة سيكون محل تساؤل".
ويقول: "منذ بداية العام الجاري فإن أفضل مجموعة للأسواق الصاعدة كانت المجموعة الآسيوية، إذ تحسنت أسواق الأسهم فيها وزادت بنحو 14 في المائة، تليها بلدان أمريكا اللاتينية وزادت بنسبة 12.4 في المائة، تليها مجموعة أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا بنسبة 3.4 في المائة، وإذا نظرنا للمستقبل فإنه من المتوقع أن تواصل الأسواق الصاعدة الآسيوية تفوقها خلال الربع الثاني من العام الجاري، وترتيبها وفقا للتقرير الذي أصدرته مجموعة براون برازرهاريمان سيكون بالترتيب التالي: سنغافورة، ثم كوريا الجنوبية، وهونج كونج، والصين". ومن بين أكبر عشر أسواق صاعدة ستكون هناك ست من آسيا، بينما ستشهد البرازيل والمكسيك وكولومبيا وجنوب إفريقيا وتايلاند وشيلي أداءا سيئا، وفي أوروبا سيكون الأداء أيضا متراجعا بالنسبة لتشيك وبولندا، وستشهد ماليزيا وإندونيسيا تحسنا طفيفا، ومصر وتركيا تحسنا ملموسا.
وعلى الرغم من وجود عديد من المعايير الاقتصادية، التي يمكن أن يقاس بها مدى تمتع الأسواق الناشئة في الوقت الحالي بأوضاع اقتصادية مشرقة، فإن الإيجابية التي تتجلى في الأسواق الصاعدة تظهر بشكل واضح في مدى جاذبيتها لرؤوس الأموال الأجنبية.
وقد ذكر بنك أوف أمريكا ميرلي لينش أن الاستثمارات في صناديق الأسهم الآسيوية باستثناء اليابان بلغت أعلى مستوى لها خلال عام، وأن التدفق المالي الأسبوعي إلى بورصات الأسواق الصاعدة بلغ 2.1 مليار دولار للأسبوع الرابع على التوالي، وأن المستثمرين الدوليين يرفضون في الوقت الراهن بيع أسهمهم الآسيوية، خاصة مع تحقيق الصين معدلات نمو أعلى من المتوقع، وخفض البرازيل لسعر الفائدة الأسبوع الماضي في محاولة لتعزيز النمو، وتراجع الإدارة الأمريكية عن اتهامها للصين بالتلاعب في أسعار صرف عملتها الوطنية، وجميعها عوامل تعزز الأفق الاستثماري في الأسواق الناشئة.
ويزداد تعزيز الأفق المستقبلي للاقتصادات الناشئة بعد أن أوضحت مؤسسة التمويل الدولية أن معدل النمو في الاقتصادات الناشئة بلغ نحو 6.8 في المائة خلال الربع الأول من العام الجاري، وهو أعلى معدل تحققه الأسواق الصاعدة منذ عام 2011، وعلى الرغم من أنه من السابق لآونة القطع بأن هذا هو المتوسط العام لنمو الأسواق الصاعدة هذا العام، إلا أننا أمام مؤشر إيجابي للمسيرة الاقتصادية للبلدان الناشئة خلال عام 2017، فالصادرات الصينية ارتفعت بنحو 16 في المائة خلال شهر آذار (مارس)، ولم تنعكس التوترات الحالية في شبه الجزيرة الكورية سلبا على تجارة كوريا الجنوبية، وشهدت الصادرات في تايوان وماليزيا ارتفاعا ملحوظا.
مع هذا يبدو بعض المختصين حذرا في نظرتهم المستقبلية تجاه الأسواق الناشئة. الدكتورة ماري كويل أستاذة التجارة الدولية في جامعة كامبريدج، تعتقد أن حالة التذبذب التي يمر بها الاقتصاد الدولي، وغياب ما تصفه باستراتيجية اقتصادية دولية فعالة وناجعة في التعامل مع تبعات الزلزال الاقتصادي الذي ضرب البلدان الرأسمالية عالية التطور عام 2008، واستنزاف السياسات المالية طاقتها دون تحقيقها الحد الأقصى من مبتغاها، برفع معدلات النمو الاقتصادي في البلدان التي تضررت من الأزمة الاقتصادية العالمية، والصراع العنيف في منطقة الشرق الأوسط، والتوترات في شبه الجزيرة الكورية، والاحتقان السياسي بين الهند وباكستان، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كلها عوامل من وجهة نظر الدكتورة ماي لا تنبئ بآفاق جيدة للأسواق الناشئة.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أنه إذا كانت مساهمات الاقتصادات الناشئة بلغت نحو 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على المستوى العالمي، فإن تلك النسبة يتوقع أن تتراجع إلى 60 في المائة خلال الفترة من 2016-2021، كما أن النزاعات الدولية ستنعكس حتما على معدلات التجارة الدولية، وأغلب الاقتصادات الصاعدة رسمت سياستها الاقتصادية إما على أساس تصدير المواد الخام إلى البلدان الناشئة الأكثر تصنيعا مثل الصين، وكذلك للاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، أو أن سياستها التنموية تعتمد على تصدير سلع مصنعة للخارج، وفي كلا الحالتين فإن تلك الاقتصادات باتت مرهونة بتطور الأوضاع الاقتصادية خارج حدودها الوطنية وأسواقها المحلية، ومن ثم فإن معدلات النمو لديها ستتأثر حتما بأي هزات عنيفة أو صراعات دولية.
وتضيف: "إذا تواكبت تلك النزاعات مع تنامي روح الحمائية الدولية، فإننا سنشهد ضغوطا شديدة على اقتصادات الأسواق الناشئة، ويزداد الأمر تدهورا إذا أدى ذلك إلى انفجار أزمة المديونية العالمية".
إلا أن تلك النظرة الحذرة تظل استثناء وسط طيف واسع من القراءة الاقتصادية الإيجابية تجاه أوضاع الاقتصادات الناشئة، حيث إن 90 في المائة من بلدان الأسواق الصاعدة يبلغ متوسط دخل الفرد فيها أقل من نصف متوسط دخل الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني عمليا أن هناك فرصة أمام تلك الاقتصادات لتحقيق مزيد من النمو، شريطة تبني مجموعة من السياسات الاقتصادية الرزينة، والابتعاد عن المخاطر الاقتصادية التي يمكن أن تكون تداعياتها كارثية بالنسبة لتلك البلدان.