Author

تلك الكارثة المتوارثة

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الآلاف عاشوا بلا حب، لا أحد منهم عاش بلا ماء"
أحد شعارات حملات توفير المياه العالمية

ربما تتحسن وضعية الغذاء العالمي، أو تتراجع معدلات التخريب اليومي للبيئة على هذا الكوكب، أو تنخفض معدلات الفقر في بعض المناطق، أو تهبط أعداد الأميين حول العالم، أو تتراجع نسبة وفيات الأطفال. ربما يحدث كل هذه التطورات على تلك الأصعدة، إلا أن المصيبة أو الكارثة المتوارثة المتوالدة المرتبطة بالمياه وإمداداتها، تتحرك من سيئ إلى أسوأ. وإذا ما بقيت هذه المصيبة ضمن مستواها المخيف، فإن ذلك يعتبر شيئا إيجابيا بل "نجاحا". لماذا؟ لأن كل البرامج والمشاريع العالمية والإقليمية والمحلية فشلت بالفعل في الوصول إلى مناطق قريبة من الأهداف التي حُددت على أكثر من مستوى طوال العقود الماضية لمواجهة نقص مياه الشرب، أو لنقل نقص المياه النظيفة. ومن هنا، فبقاء المصيبة على حالها يعتبر "نجاحا"!
تعترف المؤسسات والمنظمات العالمية باستفحال أزمة المياه، مع اعترافها بالطبع بأن الحراك نحو مواجهتها على صعيد التمويل المالي يظل ضعيفا في مناطق وبلا وجود في مناطق أخرى. والغريب أن أزمة طويلة كهذه الأزمة، كان بالإمكان مواجهتها بأقل التكاليف، لو اهتمت الجهات المعنية المؤثرة عالميا بها منذ البداية. ليس فقط عن طريق توفير الأموال اللازمة، بل أيضا من جهة نشر الثقافة المطلوبة للحفاظ على المياه، أو لتسهيل الوصول إليها وفق أسس اقتصادية ذات جدوى. الذي حدث أن التغير المناخي المتسارع، أسهم في رفع معدلات مخاطر أزمة المياه، من خلال امتداد مساحات التصحر حول العالم، فضلا عن عدم متابعة حقيقية لمشاريع إصلاحية ذات جدوى طرحتها المؤسسات العالمية المعنية في المناطق التي تواجه النسبة الأكبر من هذه الأزمة.
منظمة الصحة العالمية أطلقت أخيرا تحذيرا كان متوقعا، يتعلق بعدد البشر الذين لا يستطيعون الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، بمعنى آخر عدد البشر الذين يصلون إلى مياه ملوثة. كم هو هذا العدد المرعب؟ مليارا نسمة في مختلف المناطق حول العالم! والمنظمة تمضي أبعد من ذلك، بالتأكيد عبر إحصاءات مباشرة على أن المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي، تتسبب سنويا في أكثر من 500 مليون حالة وفاة، في الوقت الذي يرتفع فيه الطلب على المياه بمعدل 50 في المائة بحلول عام 2030. تقرير منظمة الصحة خطير، لأنه يدعو إلى تدوير كميات من المياه، غير أن الأدوات اللازمة لمثل هذا التدوير غير متوافرة في غالبية المناطق التي تعاني نقصا في المياه أو مياها ملوثة.
الشرق الأوسط من تلك المناطق التي تواجه مستقبلا مائيا مظلما، لأسباب تتعلق بالأزمة ـــ الكارثة العالمية بشكل عام، إضافة إلى أسباب إقليمية محلية تتعلق بترشيد الاستهلاك، وهذا الأمر على وجه الخصوص لم يحقق المطلوب أو الهدف منه. ومشكلة المياه لا تنحصر في إطارها على الإطلاق، بل تأخذ معها جوانب عديدة، في مقدمتها التنمية، ووضعية الاقتصاد بشكل عام، والهجرة والكثافة السكانية في مناطق دون غيرها، والضغط على الخدمات في بعض المناطق، دون أن ننسى جانب الأمن والاستقرار. البنك الدولي نفسه يعتقد أن أزمة ـــ كارثة المياه تشكل تحديا خطيرا للأمن والسلم الدوليين، إلى جانب كل ما تمت الإشارة إليه، هي ببساطة أزمة شاملة تحمل معها دمارا شاملا، أو مصائب متكاملة. ويقول مسؤول في البنك الدولي، إنه يعتقد أن المياه ستصبح أم المشاكل في الدول النامية.
وهذا الكلام لا مبالغة فيه، إذا ما عرفنا أن مثل هذه الأزمة تسهم في فقدان الناتج المحلي في الشرق الأوسط 14 في المائة، وفي آسيا 11 في المائة و12 في المائة في بلدان الساحل الإفريقي! هذه الأرقام أجمعت عليها مؤسسات دولية سواء تلك التابعة للأمم المتحدة، أو غير الحكومية منها. أما الحلول، في الواقع هي موجودة، وليست مستعصية على الخبراء في هذا المجال. وهي تنحصر بالطبع في الإرشاد الفاعل وليس النظري، إلى التمويل اللازم، وهو ليس منخفضا كما قد يتصور البعض. ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي لحل أزمة ـــ كارثة المياه نحو تريليون دولار. وهذه الأموال لن تذهب هدرا بالطبع، لأن العائد عن كل دولار منها سيكون ما بين 3 و34 دولارا، بمعنى أن الاستثمار في حل أزمة المياه هو في الحقيقة استثمار بجدوى اقتصادية عالية، وليس فقط استثمارا لحل أزمة.
استطاعت منظمات الأمم المتحدة المختلفة الاقتراب من أهدافها التي حددتها للألفية الجديدة، لكنها على الجانب المائي لم تصل إلى نقطة قريبة من الهدف، وكذلك الحكومات، خصوصا في البلدان النامية، فشلت في صناعة ثقافة مائية عالية الجودة، ومارس بعضها أسلوبا عقيما يعتمد على قطع المياه مثلا لفترات طويلة جدا. المسألة لا تتعلق بقطع الإمدادات لتفعيل أو صناعة ثقافة من هذا النوع، إنها كوكتيل من التعاون العالمي على كل المستويات، والاستثمار الواعي في المياه. ألا يكفي موت نصف مليار شخص سنويا جراء المياه الملوثة للتحرك العملي؟!

إنشرها