تنسب إلى أوتو فون بسمارك مؤسس الدولة الألمانية مقولة «يكثر الكذب عادة قبل الانتخابات وخلال الحرب وبعد رحلات الصيد»، لكن ما من شك أن الرجل سوف يتراجع عن قولته تلك لو أطل على واقعنا المعاصر، حيث تتواضع كل العوالم؛ بما فيها عالم السياسة الذي وصف على الدوام بأنه البيئة المثالية لانبثاق الكذب بأصنافه المتعددة، أمام طوفان الأكاذيب والإشاعات التي تغزونا بسبب وسائل الإعلام والتواصل الحديثة.
وهكذا تحولت كل أيام السنة عندنا إلى "كذبة أبريل"، التي اعتاد فيها الناس إطلاق الإشاعات، في ما يشبه استمتاعا بالكذب الذي يعتبره الباحث الإنجليزي جون شيمل صفة تميز بها البشر عن سائر المخلوقات الأخرى.
هذا التوصيف حفز الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا على تقديم جينيالوجية تفكيكية لمفهوم الكذب في كتابه "تاريخ الكذب" (2012)؛ الذي كان في الأصل محاضرة ألقاها في المعهد الدولي للفلسفة، والمترجم حديثا (2016) إلى اللغة العربية. مع التنبيه هنا إلى التناقض القائم بين العنوان والمضمون، حيث يؤكد داخل الكتاب أنه من الصعب التأكيد أو الجزم بوجود تاريخ للكذب، أو حتى وجود نقطة انطلاق وبداية له، فهو موجود على مختلف الأصعدة، وفي شتى المجالات فيصعب تحديد من أين وكيف بدأ؟
اليوم لم يعد الكذب يمشي على الحبال القصيرة كما يقال، فسيره أقرب إلى انتشار النار في الهشيم، إن لم يكن يضاهي البرق في السرعة. وعكس ما كان متوقعا، في زمن الانكشاف المعلوماتي الذي بشرنا بـ"الحقيقة الناصعة" التي لا يمكن إخفاؤها؛ في عصر الصورة مع ثورة الاتصالات وتكاثر وسائل الإعلام، أضحى الكذب سلعة رائجة بفعل هذه الوسائل التي يلهث أصحابها وراء السبق الصحافي والانفراد الإعلامي.
يقف المتابع عند حقيقة واقعية تزداد رسوخا في السنوات الأخيرة، مفادها أن التطور التكنولوجي والتقني زاد من إمكانية التضليل والخداع، ولم يقلصها كما قيل حينها. ولم تعد الشكوى من حجب المعلومات أو إخفائها، بل من سيلها العارم حد التضارب في معظم الأحيان؛ إذ يعاني المتلقي التدفق الكثيف والمتواصل للمعلومات، ويصبح ضروريا أن يقوم بفرزها، إذا كان يريد بالفعل الوصول إلى الحقائق، وهو ما يستدعي بذل مجهود كبير في التحقق والتدقيق.
وكأنَّ الكاتب الفرنسي ميشال دو مونتاني يقرأ فنجان واقعنا اليوم حينما قال: "لو كان للكذب - كما هو شأن الحقيقة - وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا. إلا أن نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله".
لقد تحولت وسائل التواصل والإعلام الحديثة إلى واحد من أهم أسباب انتشار وتوسع ظاهرة الشائعات في المجتمعات، فالأكيد أنها أتاحت للكثيرين هامشا أكبر من الحريات، لكنها في المقابل مكنتهم من الزج بآرائهم في هذه الساحات التي يتابعها الملايين من دون رقيب أو حسيب، ما تولد عنه سيل دافق من "الأخبار"، تمتزج فيها الشائعات بالآراء الذاتية والمواقف الشخصية.
يرفض البعض هذه المقارنة على اعتبار أن ما نعيشه اليوم في وسائل التواصل والإعلام الحديثة أشبه بتلك المناقشات الطويلة التي أثيرت في ما مضى بخصوص مسألة الاستقلالية والحياد والموضوعية، والتوجه الذي يحكم الخط العام لهذا المنبر أو ذاك في الإعلام التقليدي.
وهنا نشير إلى أن الحديث عن وسيلة إعلام محايدة أقرب ما يكون إلى الخرافة منه لشيء آخر؛ فلكل وسيلة إعلام توجه ورأي. على هذا الأساس يكون الانحياز مفهوما. لكن الموضوعية تبقى مطلوبة، ونعني هنا محاولة مقاربة الحقائق بغض النظر عن الانحيازات. الموضوعية الكاملة لا يمكن تحقيقها، لكن السعي لأعلى درجاتها مطلب يتمناه الجميع.
غير أننا اليوم مع وسائل الإعلام والتواصل الحديثة أو ما يعرف تعسفا بـ"صحافة المواطن" التي تقدم نفسها كبديل للإعلام التقليدي، انتقلنا من مربع المهنية والمصداقية والكفاءة والجودة إلى دوامة الأكاذيب والتضليل والتلفيق والخداع، لدرجة وجد فيها المتلقي نفسه في "حيص بيص" من أمره، إذ لم يعد بمقدوره التمييز بين الخبر والتحليل والرأي.
فهذا التوجه الإعلامي الحديث تحول إلى منصة للآراء الذاتية والانطباعات الشخصية، التي سرعان ما يتم تداولها على أنها أخبار وحقائق. ناهيك عن تحول تلك الفضاءات إلى مرتع لتوليد الشائعات، ومصنع لفبركة الأخبار والصور على المقاس.
صفوة القول إن هذه الشبكات الحديثة لن تتوقف عن لعب دور الأخبار ونشر المعلومات وتداول الأفكار، والقفز فوق ظهر الوسائط التقليدية للإعلام، التي خسرت المنافسة أمام الفاعل الرقمي الذي أدخل ملايين المواطنين إلى أكبر قاعتي تحرير في العالم موجودتين في "فيسبوك" و"تويتر"، بدون تكوين ولا تأهيل ولا ميثاق تحرير.
وها هي أولى النتائج المدمرة لهذه الوسائط التي خرجت من التواصل بين الأفراد إلى الأخبار، ومن تبادل الصور إلى نشر المعلومات، بدون ثقافة التحري والتأكد من الأخبار، وعرض كل وجهات النظر، والابتعاد عن القذف والسب والعنصرية والتمييز، والتحريض على الكراهية، تماما مثل ما تفعل الصحافة الصفراء التي كانت تعيش على هامش المجتمعات، تقتات على الفضائح والأخبار المفبركة، فصارت اليوم موضة عالمية.
وصدق الشاعر العربي الشريف العقيلي حين قال:
"لا يكذب المرء إلاّ من مهانته/ أو فعله السوء أو من قلّة الأدب لبعضُ جيفة كلب خيرُ رائحة / من كذبة المرء في جدّ وفي لعب".


