Author

الإدارة المتعمقة وحياة القشور

|

في مناسبة احتفالية تنافسية خاصة بتطوير الأعمال وأنشطة فرق العمل، تساءل أحد الخبراء: لماذا لا يصل أحدهم إلى درجة معقولة من "العمق"؟ لماذا يقترب جميعهم من الحل الحقيقي، ولكن لا يمسك به أحد؟! كان هذا الخبير يشير إلى نقطة جوهرية نعانيها جميعا على المستويين الشخصي والإداري، أفرادا وجهات. لن أقول إنها تضخيم للصورة مع هشاشة في الهيكل، وغياب للمعنى وضعف في الجوهر! ولكن السؤال الذي يتبادر في ذهني دائما، لماذا لا نقوم بتنفيذ الخطوة الأخيرة التي تصنع الفارق؟ هي خطوة غير مكلفة ولكنها مجدية، قد تكون درجة من العمل الإضافي ولكنها ستعكس مراحل من الإتقان.
يدير مسؤول تنفيذي شركة ضخمة باقتدار، آلاف الموظفين وعشرات المواقع، ولكنه لم يتمكن بعد من السيطرة على النقطة المشتركة التي تجمع الجهود والإمكانات وتمنع الهدر وتظهر الوفاق. يكلف مدير مشاريع محترف بإدارة مشروع حساس جدا، ولكنه لا يستخدم إلا الأدوات التقليدية التي لم تعد تلائم ديناميكية مشروعه المعقد، على الرغم من أنه حضر عشرات الدورات وعمل في أماكن مختلفة وتعرف على أدوات عصرية حديثة تحسن أداء مشروعه بطريقة مضاعفة.
أب يضع يده على الجرح حين يناقش العملية التربوية في مدارسنا. هو أب رائع.. يتواصل مع المدرسة باستمرار ويحاول أحيانا صنع الحوافز لأبنائه، ولكنه في معظم الحالات يعمل بأسلوب رجال المطافئ، حلوله الفعالة والعملية تأتي بعد المصيبة فقط. يعرف رجال المطافئ الذين يجيدون عملهم أن السيطرة على الحرائق تبدأ من ضبط متطلبات السلامة، قبل مهارات إطفاء النيران.
شاب منضبط ومبادر، عملي جدا ولا ينقصه الذكاء، وبالطبع يثق به مديره؛ إلا أنه لا يقرأ. ماذا يعني هذا؟ يعني أن إمكاناته محدودة بتجاربه الخاصة به، لا يستطيع الاستفادة من تجارب الآخرين، وسيقوم كل مرة بإعادة اختراع العجلة. وماذا يعني هذا؟ يعني أن طاقاته الكامنة وإنجازاته المحتملة وكل ما يستحق الوصول له موجود ولكنه محبوس معه في سجن لا يمكن الخروج منه بسهولة. ربما لن يشعر بأنه موجود داخل السجن، لأنه يسمع الإطراءات ويحصل على التقدير ويشعر ببعض الراحة مع أنه في الحقيقة لا يزال مقيدا. إلى أي درجة يا ترى قد تتحسن الأمور إذا خرج من هذا الحبس الاختياري؟! حينها تتفجر الإنجازات.
أعتقد أننا لا نملك ما يكفي من الحوافز للقيام بتلك الخطوة الإضافية التي تصنع الفارق، للوصول للعمق المطلوب حيث الجواهر الثمينة وتجاوز حياة القشور التي تفتقر إلى المعنى. لماذا لا نملك الحوافز؟ لأن سقف الطموحات مترنح، يرتفع في الأحلام وينخفض كثيرا في أرض الواقع. ولأن التغيير أسرع من درجة تطور "التصورات" في مخيلتنا. معظم من يستفيد من النتائج ينبهر بها بدرجة تفوق قدرته على تقييم القيمة التي يحصل عليها. وهذا يعيدنا إلى تعريف القيمة؛ هل نملك كأفراد مرجعية موضوعية لما نريد، ونعرف ذلك بشكل جيد؟
هناك كذلك كثير من التشويش. لا يملك معظمنا القدرة ولا الأجواء الملائمة للتركيز. التشويش وتعدد المسارات "الإيجابية والسلبية" التي ينخرط فيها الشخص أحد أهم مسببات البعد عن التعمق في مسألة ما. فلم يعد أحد يملك الوقت ولا الرغبة لإنهاء ما يقوم به بشكل صحيح ومكتمل، لماذا يقوم بذلك إذا كانت النتائج الأولية التي يحققها تفي بالغرض! على الرغم من أني من مشجعي تعدد الاهتمامات وتنمية المواهب الشخصية بشكل شجري متفرع إلا أن إدارة العمل -أي عمل- والحصول على نتائجه بشكل فعال يغير الواقع لا يحدث إلا بعد الوصول إلى عمق معين، وهذا يعني عددا محترما من الساعات الجدية والمركزة. أذكر بساعات مالكوم قلادويل العشرة آلاف التي اعتبرت قاعدة للتميز في أي مجال محدد. وهي تعادل ما يقارب خمس سنوات من العمل المتواصل. تتعرض هذه القاعدة للنقد باعتبار أنها تقوم على ربط الممارسة بالتفوق وهذا ليس شرطا ثابتا في كل المجالات. على سبيل المثال، تتغير قواعد اللعبة باستمرار في بعض المجالات مثل ريادة الأعمال والفنون، لذا يتطلب الأمر إمكانات لا تنمى بالممارسة فقط. في كل الأحوال، الوصول إلى درجة من التعمق في أي مجال يجعلنا نتجاوز حياة القشور ونصل إلى معان ونتائج مختلفة. التعمق لا ينحصر فقط في الممارسة، وإنما يشمل كذلك التخطيط والاقتباس والتعلم وحتى صنع الأساليب الجديدة بتفرد. لا مانع من أن يعيش أحدنا جوه الخاص ليصنع نتائج مختلفة يستفيد منها الكل، ولكن المهم، ألا يكتفي بالقشور في مدخلاته ومخرجاته، خصوصا حين يُكلف بدور مهم ينتظر جميع من حوله نتائجه.

إنشرها