ثقافة وفنون

بيتر سلوتردايك .. فيلسوف الخروج عن المألوف

بيتر سلوتردايك .. فيلسوف الخروج عن المألوف

منذ عقدين من الزمن؛ وتحديدا عام 1997 في الاحتفالية التي أقيمت بمدينة بازل السويسرية حول الفيلسوف مارتن هايدجر، وآراء الفيلسوف الألماني المعاصر بيتر سلوتردايكPeter Sloterdjk تثير الجدل داخل ألمانيا وخارجها على امتداد القارة العجوز ومعها بقية العالم. كانت محاضرته حينذاك بعنوان «قواعد الحظيرة البشرية: جواب على رسالة هايدجر حول الإنسانوية» واحدة من تلك الآراء العديدة لهذا الفيلسوف المارق أو "دجال الليبرالية الجديدة المبتذلة"، كما يحلو لخصومه ومنتقديه الكثر أن يصفوه.
يصنف الرجل ضمن زمرة تيار "ما بعد- ما بعد الحداثة"، وأحد مؤسسي أو بعبارة أدق مجددي المدرسة الكلبية القديمة التي يعتبر ديوجين -الذي تأثر به سلوتردايك- الأب الروحي لها، ما دعاه إلى أن يجدد هذه المدرسة بمهام معاصرة.
يعد صاحب "نقد العقل الساخر" (1983) علَما من أعلام النقد الثقافي في ألمانيا، وعلى الصعيد الأوروبي اليوم، فقد تمكن من نقل الفلسفة إلى التليفزيون من خلال برنامج "المربع الفلسفي" المعروف ب "ساحة أثينا الجديدة"، منذ سنة 2002 على قناة (ZDF) الألمانية. وفيه يستضيف أصحاب الفكر والرأي، لمناقشة قضايا المجتمع والعالم برؤية فلسفية إبداعية.
إلى جانب كتابه حول العقل الساخر الذي عدَّه النقاد أهم حدث ثقافي عرفته ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية؛ فالكتاب واحد من أكثر الكتب الفلسفية مبيعا باللغة الألمانية، وكان في الأصل أطروحته للدكتوراه في جامعة هامبورج. اشتهر الرجل بثلاثية "أفلاك" Spheres التي صدرت ما بين عامي 1998 و 2004، وفيها يعرض التاريخ الثقافي والفكري للغرب، ويدعو إلى اكتشاف فضاءات جديدة، عادة ما تكون مهملة أو خفية. فوظيفة العلم والفلسفة والدين – في نظره - هي البحث عن هذه اليوتوبيا المفقودة، بالكشف عن الأواصر السرية التي تربط بين الكائنات المختلفة داخل "رحم الوجود".
يحتار القارئ لأعمال هذا الفيلسوف بحثا عن أطروحة مؤطرة، أو في الحدود الدنيا عن خيط ناظم فلا يجد لذلك سبيلا. وحتى الاستعانة بذوي الاختصاص في الفلسفة الألمانية لا يجدي نفعا، فالجواب الذي يتردد من جهتهم؛ وعلى أكثر من لسان، بخصوص الرجل هو أن "الخروج عن المألوف، بوجه عام، هو أهم ما يميز فلسفة سلوتردايك".
ويرى آخر أن هذا الفيلسوف المشاكس "يتقن جيدا استغلال إمكانات الإثارة -على غرار وسائل الإعلام اليوم- إلى حدودها القصوى، سواء من ناحية المفاهيم التي يبرع في ابتداعها، والتي يطويها النسيان بعد فترة قصيرة، أو تلك الأفكار المتطرفة التي ما برح يرددها وينشرها". وبذلك تتحول الفكرة إلى خادمة للمفهوم، بدل أن يخدمها المفهوم، إذ كثيرا ما يتولد عند قارئه انطباع بأنه يخلق المفاهيم قبل أن يجد الفكرة، وهذا شأن كل أشكال الإثارة، التي تعلي من قيمة الواجهة على حساب المضمون.
لا يهتم مؤلف "الإنجيل الخامس لنيتشه" (2001) كثيرا لما يقال عنه، فها هو ذا يدعونا وبروح تفاؤلية -نقيض نيتشه- إلى اكتشاف المهارات والملكات الكامنة فينا، مؤكدا قدرة الإنسان على الخروج من الأزمة الاقتصادية والإيكولوجية والنووية، وتجاوز مشكلات الغذاء والمياه والطاقة... وغيرها. ومصدر هذا التفاؤل لديه عائد إلى قدرة الفرد على التخطي أو التجاوز الدائم، فعلى الرغم من كون الإنسان أسير العادة والمألوف والمبتذل، يحتفظ لنفسه في الوقت ذاته بالقدرة على انتهاك "حدود" الطقوس اليومية غالبا، وهذا أبلغ دليل على أننا نصنع مستقبلنا.
لا يتوانى "الفيلسوف القطعي" (الحاسم) كما يحب أن يلقب، في تأكيد أهمية النقد. ففي نظره كلما مارسنا النقد، تراجعت مساحة الكذب والزيف والوهم؛ ليس داخل المجتمع أو العالم فقط، وإنما داخل أنفسنا أيضا، ذلك لأن نتيجة الفعل تؤثر في الفاعل بالمثل، بمعنى أن الأفكار لا تترك أثرها في الأشياء فقط، ولكن في من يفكر فيها.
تبقى إثارة الجدل سمة ملازمة لهذا المفكر، فقبل عقد من الزمن خرج في مقال؛ لا يقل حدة عن محاضرة ذكرى هايدجر، بعنوان "ثورة اليد المعطاءة" تضمن نقدا حادا للدولة الاجتماعية أو "الدولة السارقة" كما ينعتها، رافعا راية الحرب في وجه الضرائب. فالرجل ومعه تيار بأكمله في التوجه نفسه ممن يتكاثرون يوما بعد آخر، يرون في فرض الضريبة على الأفراد اعتداء على الملكية الشخصية، أو بالأحرى نوعا من أنواع استغلال الطبقات غير المنتجة للطبقات المنتجة.
للخروج من هذا المآزق، وضد لهذه القسرية، يرى سلوتردايك أن الأفضل هو إتاحة حرية التصرف للطبقات المنتجة في أرباحها، وأن توزع ما تريد من تلك الأرباح هدايا على مجموع المجتمع. لكن، ما أكثر الأسئلة التي تحاصر هذا القول من قبيل: ألا يعود بنا هذا الرأي إلى مجتمع الإقطاع؟ وإلى نظام يقوم أساسه على الصدقة والإحسان؟ ثم ألا يربط نظام هكذا مصير الأغلبية بكرم قلة قليلة تملك كل شيء؟ يتساءل أحدهم في صيغة أقرب إلى الاستنكارية منها إلى الاستفهام.
ثم أليس وصف فرض الضريبة بالتدجين السياسي للأفراد فذلكة لغوية وهو ما يتقنه الرجل بشكل جيد؟ وبالأخص عندما نتذكر توظيفه لعبارة برتولد بريخت Bertolt Brecht التي تقول إن «السطو على مصرف أقل خطورة بكثير من عملية تأسيس مصرف جديد»، ويستدل بذلك على أن السرقة جزء من ممارسة السلطة. إن الضريبة على الدخل في الدولة الاجتماعية لا تختلف عن عملية نزع الملكية في ظل النظام الاشتراكي، ولهذا يعتقد أننا لا نعيش في نظام رأسمالي، بل في نظام نصف اشتراكي أو ما يسميه بنظام "اليد الأخوذ".
ما أكثر كبوات الرجل وسقطاته في سبيل تأسيس طرح فلسفي متين، وهو المعروف بشدة التقلب فقد مر بمحطات عديدة في حياته التي تميزت بالتحولات وعدم الاستقرار، فقد جمعته صداقة متينة مع المفكر الهندي المثير للجدل شاندرا موهان جاين. لكن تحسب له تلك الخلخة التي أحدثها في عديد من الجبهات لدرجة عرضته لنقد عنيف وشديد، حد السخرية التي يتقنها جيدا، من قبل رائدين من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية وهما: أكسل هونيث و يورجن هابرماس.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون