ثقافة وفنون

عصر ما بعد الحقيقة .. «تكنولوجيا» تتجاهل المعلومة وتُغلّب الرأي

عصر ما بعد الحقيقة .. «تكنولوجيا» تتجاهل المعلومة وتُغلّب الرأي

أواخر السنة المنصرمة تم اختيار كلمة "ما بعد الحقيقية" Post-truth من قبل المشرفين على موقع معجم أكسفورد كلمة السنة، نظرا لزيادة تداولها التي تضاعفت مئات المرات. وبذلك استحقت أن تُنتقى من بين جملة من المفردات التي راج تداولها بشدة هذه السنة. وجاء تعريف الكلمة؛ وفق المصدر ذاته دائما، بقوله إنها تأتي: "في سياق أو وصف الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام من الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية".
لم يلق هذا الاختيار اهتماما كبيرا لدى الكثيرين، على اعتبار أنه يندرج في باب ما يُعرف بـ "بيبلوجرافيا النهايات" أو حمى الـ "ما بعديات" التي انطلقت في الأوساط الغربية منذ تسعينيات القرن الماضي، فهذه الكلمة لا تخرج عن مسلسل بدأ مع مصطلح «ما بعد الاستعمار» و«ما بعد التاريخ» مرورا بـ «ما بعد الإسلام السياسي» و«ما بعد الصهيونية» وصولا إلى «ما بعد الحداثة» وباقي أخواتها.
تاريخيا يبقى هذا التقدير صحيحا؛ حتى وإن لم يدرك أصحابه ذلك، فبعض المصادر ترجئ استعمال مصطلح "ما بعد الحقيقة" لأول مرة إلى بداية آخر عقد من القرن الماضي، وتحديدا عام 1992 الذي شهد صك العبارة. وكان ذلك ضمن مقال للكاتب -الأمريكي من أصل صربي- ستيف تيسش Steve Tesich في أقدم مجلة أمريكية مختص في الشؤون السياسية والثقافية تحمل اسم «ذا نايشن» The nation، للدلالة على الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها، وتصبح بلا جدوى أو أي تأثير. لكن انتشار الكلمة بقي على نطاق ضيق نسبيا إلى حدود السنوات الأخيرة، حين تمت استعادته، قبل أن يشاع تداوله في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية بالموازاة مع التطورات التي تعرفها الساحة السياسية والفكرية.
من جانبه ساهم ضغط المتغيرات المتسارعة هناك في إيلاء العناية والاهتمام بهذا المصطلح، وبشكل خاص بعدما تبين أنه الأنسب للدلالة على الاتجاهات التي بدأت تتخذها الحياة داخل المجتمعات الغربية. وهو ما دفع مؤسسة إعلامية من حجم صحفية "واشنطن بوست" الأمريكية، عقب فوز الرئيس دونالد ترامب؛ لوضع عنوان يقول «أهلا  بكم في إدارة ما بعد الحقيقة» لواحدة من مقالاته إيمانا منها بذلك.
من جهتها لم تتردد رئيسة تحرير صحفية "الجارديان" البريطانية كاثرين فاينر katharine viner؛ التي ينسب إليها خطأ ابتكار المصطلح، في استعماله للتعبير عن طبيعة الخطاب الانتخابي الذي واكب الاستفتاء الذي شهدته المملكة المتحدة البريطانية من أجل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في العام الماضي، وما رافق ذلك من مشاكل وأزمات -بعضها لا يزال تتناسب-، أضمرها دعاة خيار الانفصال.
«ما بعد الحقيقة» ليس هو الكذب، بل هو أكثر راديكالية منه ما دام الخطاب الكاذب يظل في نهاية المطاف خاضعا لتقلبات ميزان الصواب والخطأ، لأن المقصود به هو إقناع المخاطب بأنه حقيقي، في حين أن خطاب «ما بعد الحقيقة» لا يهدف أصلا إلى التصديق، غرضه هو التعبير عن الأهواء والمشاعر والانفعالات لا التعبير عن الوقائع أو التقيد بسقف الإمكانات الواقعية.
وعن ذلك يقول أحدهم إننا: "نحن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، حيث بإمكاننا تجاهل الحقائق التي لا تعجبنا، والاستفادة من أي سرد شخصي نرغب فيه". إذن حقبة جديدة تخرجنا من زمن الالتباس الذي عشنا على وقعه سنين عددا نحو عصر يحل فيه الكذب محل الصدق، والعاطفة محل الحقيقة، والتحليل الشخصي محل المعلومة، والرأي الواحد محل الآراء المتعددة.
تجاوزا يمكن التعايش مع متوالية "المابعديات" الواردة أعلاه لعدة اعتبارات ليس هذا مقام التفصيل فيها، لكن عندما يتعلق الأمر بـ "الحقيقة" فذاك يعني أن القاعدة -الجاري بها العمل- التي تفيد بأنه: "بإمكانك دائما أن تقول الحقيقة، ولكن لست ملزما بقول الحقيقة كلها" ستصبح في خبر كان، ولخيالكم أن يتصور كيف يمكن العيش بلا حقيقة، ولا أي أفق للاستمرارية دونها.
حقا إن الأمر ليس بتلك البساطة التي نتصورها، إذ لم يتوقف عند مجرد توليد مصطلح تلوكه الألسن ووسائل الميديا بل تعداه إلى رسم امتداد له في السياسية والإعلام والثقافة... وغيرها من مجالات الحياة معلنا عن بداية حقبة جديدة يصعب التكهن بما يمكن أن تحمله من مفاجآت أو تصير إليه من مآلاتها.
وقد بدأت ذلك فعليا منذ سنوات، وما على المشككين في ذلك سوى مراجعة كتاب "عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة المعاصرة" The Post-Truth Era: Dishonesty and Deception in Contemporary Life للكاتب الأمريكي المعاصر رالف كييس Ralph Keyes، ليكتشفوا أننا نعيش على وقع ما فوق المزيف وأكثر من الخداع وما وراء الإمعان في الكذب في زمن يشهد، ويا للعجب، ثورة في تكنولوجيا المعرفة وسائل الإعلام والتواصل ما يفترض معها أن تكون عناصر مساعدة في تبليغ الحقائق طرية وطبق الأصل إلى الجمهور، وليس نقيضا كما يحدث حاليا.
لقد كانت الحقائق في ما مضى، وفق تعبير المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم «تغتال تباعا تحت لافتة الشعارات، فيكسب القاموس كلمة، ويخسر الواقع حقيقة»، بينما نعيش اليوم على وقع ما أسماه أفلاطون "الأكاذيب النبيلة" مع تعديل وتنقيح كي تتواقف مع الزمن الراهن؛ لأن المسألة أكبر من مجرد كذب عادي. وكل ذلك يتم بحسب الزعيم التركي مصطفى أتاتورك «من أجل الشعب رغما عن الشعب».
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون