Author

شعبوية اليوم حمائية الغد

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"التنويع في ظل العولمة يشكل المفتاح اللازم للمستقبل"
فوجي ميتراري- اقتصادي ياباني

ليس جديدا مرور العالم بفترات يسود فيها المشهد الاقتصادي، التشكيك وعدم اليقين. فترة ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية كانت الأقرب إلينا، بحيث لم يمض عقد من الزمن على هذه الكارثة الاقتصادية التي "صنعها" الإنسان. أي أنه ليس علينا أن نذهب بعيدا في التاريخ لاستحضار فترة من هذه الفترات المشار إليها. بل يمكن القول، إن آثار الأزمة العالمية لا تزال ماثلة على الساحة بصور مختلفة، وإن قلت بشاعتها عما كانت عليه عند انفجارها في عام 2008. اليوم الأمر مختلف تماما، المشهد الاقتصادي العالمي لا يسوده التشكيك والتردد فقط، بل جهل تام بما يمكن أن يحدث لاحقا. بالطبع لا أحد يتوقع أن يكون العالم مدركا 100 في المائة لما سيحدث، لكن المشكلة، أن معدل الإدارة الآن لا يزيد على الصفر في أحسن الأحوال، خصوصا عندما تتحول المساحة الأوسع من الساحة إلى ميدان لردود الفعل وليس المبادرات.
الشيء المؤكد الوحيد حاليا، هو أن الشعبوية في البلدان التي وصفت مجتمعاتها طوال عقود على أنها راشدة، باتت نجما ساطعا في فضائها، ليس من الناحية التسويقية الإعلانية فحسب، بل أيضا من جهة الوصول إلى المشاركة في صنع القرار المحلي الذي ينعكس بصورة أو بأخرى على القرارات خارج النطاق المحلي. وهذه التيارات الشعبوية، إذا لم تكن تشارك في السلطة التنفيذية مباشرة، فهي بالضرورة لها تأثيرها في التشريع ووضع القوانين في أماكن ومنصات أخرى. وعلى غرار ما كانت عليه حركات المجتمع المدني في الستينيات والسبعينيات من تأثير وحراك كبير يسود الساحتين الاجتماعية والسياسية، أخذت التيارات والحركات الشعبوية مداها منذ العقد الماضي، وتحديدا في أعقاب انفجار الأزمة الاقتصادية مباشرة، وبدأت فعلا تكرس حضورها على هاتين الساحتين.
يحاولون أن يسوقوا هذه الشعبوية على أساس أنها وطنية خالصة. ولكن مهلا كيف يمكن لهذه "الوطنية" أن تحضر في المشهد أصلا، في حين أن العولمة حلت مكان غالبية الكيانات المحلية؟! دون أن ننسى، أن البلدان الأكثر استفادة من العولمة طوال العقود القليلة الماضية كانت تلك التي تتنامى فيها التيارات والحركات الشعبوية في الوقت الراهن. لا أحد يريد أن يوجه الاتهامات للعولمة على دورها في ظهور المشاعر "الوطنية الجديدة". فهي في الواقع لم تكن عادلة مع البلدان الأكثر هشاشة. وكانت ـ أي العولمة ـ غير تشاركية بما يكفل نجاحها. بمعنى، أنها أفادت الازدهار دون أن يكون لها دور حقيقي مباشرة في فترات الكساد وعدم النمو! حتى العولمة كانت نخبوية. وعندما تظهر الشعبوية في البلدان "النخبوية"، يكون هناك ظلم مضاعف على بقية بلدان العالم.
لننظر قليلا إلى وصول دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة، وإلى ظروف الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وإلى تقدم اليمين الشعبوي وحتى المتطرف في بعض البلدان الغربية المؤثرة، كفرنسا وألمانيا، ناهيك عن الحركات الشعبوية حتى في الدول التي تعتبر من الصف الثاني مثل رومانيا وبلغاريا والتشيك وغيرها. وبوضع المساعي الراهنة من جهات متعددة لتكريس مبدأ الحمائية على الصعيد الاقتصادي، نحن أمام مشهد اقتصادي ليس واضحا، ولكنه بالتأكيد متجه نحو أهداف ستنشر مزيدا من القلق والتوتر والريبة والشك لعد سنوات مقبلة. وإذا ما تم تمكين هذه الأهداف، فإن آثارها (مثل الأزمات الاقتصادية) تطول حتى بعد نهايتها. هل هناك حلول، أو ما يمكن اعتباره خط مواجهة صلبا لهذه الموجة؟
البعض يعتقد أن الحق على العولمة، والبعض الآخر يرى أن السبب عدم إصلاح الرأسمالية، في حين ينظر آخرون للأمر لعدم وجود فكر يصنع سياسات. والحق أن ما يجري حاليا على الساحة العالمية أن السلوكيات تصنع السياسات، وهذه الأخيرة سرعان ما تطرح على أساس أفكار منهجية عالية الجودة! ما لا شك فيه أن الرأسمالية لم تخضع منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية لأي عملية إصلاح باستثناء الفترة التي طرح فيها رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير ما أصبح يعرف بـ "الطريق الثالثة". لكن حتى هذه الأخيرة انتهت بخروج بلير من الحكم. المستفيدون من العولمة لا يريدون المساس بها، ولو نظروا إلى مجتمعاتهم لوجدوا أن العولمة العمياء وعدم إصلاح الرأسمالية أتيا بتيار الشعبوية إلى الواجهة، وصار لا يُحرك فحسب، بل يغير أيضا!
لا يبدو الأفق واضحا للاقتصاد العالمي في غضون ما تبقى من العقد الحالي على الأقل، فحتى "الحلفاء" باتوا يخسرون هذا التوصيف يوما بعد يوم. من فرط غياب قيادات تطرح سياسات تتعاطى مع المستقبل من منطلق إنساني شامل، وظهور حمائية متعاظمة ربما تقود إلى حرب اقتصادية كبيرة. التهديدات بدأت بالفعل حتى قبل أن يدخل ترمب البيت الأبيض كرئيس بلا انتماء سياسي في الواقع.

إنشرها