FINANCIAL TIMES

الأزمة الاقتصادية تفشل في دفع إسبانيا نحو «اليمين»

الأزمة الاقتصادية تفشل في دفع إسبانيا نحو «اليمين»

الأزمة الاقتصادية تفشل في دفع إسبانيا نحو «اليمين»

على الرغم من الانهيار الاقتصادي والبطالة المتفشية ما بين فئة الشباب، التي لا تزال فيلاكانياس تحمل ندوبها جراء الأزمة التي تعرضت لها إسبانيا، إلا أنه عند الدخول إلى المدينة القشتالية الصغيرة، فإن أول شيء تراه هو صف من المصانع الشاسعة الفارغة. بعضها مغلق وعليه لافتات قديمة كتب عليها "للبيع". والبعض الآخر يواجه معركة خاسرة بطيئة جراء الأعشاب التي تتعدى عليه من جميع الجوانب.
كانت تلك المصانع في الماضي هي مصدر فخر فيلاكانياس. على الرغم من أنها موطن لسكان يبلغ عددهم فقط أكثر قليلا من عشرة آلاف نسمة، إلا أن هذه البلدة اعتادت أن يطلق عليها لقب "عاصمة المدخل" لإسبانيا.
قبل انهيار طفرة الإسكان التي مضى عليها عقد في إسبانيا في عام 2008، كانت مدينة فيلاكانياس تعتز بوجود عشر شركات مصنعة كبيرة أنتجت ملايين الأبواب كل عام، حتى
انخفض معدل البطالة المحلية ليصل إلى نسبة أقل من 2 في المائة، وكان العمال ينعمون بكثير من المال: أصبحت السيارات الفاخرة مشهدا مألوفا، وأصبح قضاء العطلات الجميلة في الخارج أمرا مألوفا.
عندما انفجرت فقاعة العقارات، اضطرت ست من شركات التصنيع الرئيسية إلى الإغلاق. نتيجة لذلك خسر نحو ثلاثة آلاف عامل وظائفهم. وارتفع معدل البطالة في المنطقة بأكثر من عشرة أضعاف، وبلغ في النهاية ما نسبته 28 في المائة في عام 2012. كان التحول مذهلا إلى درجة أن فيلاكانياس أصبحت مشهورة مرة أخرى: باعتبارها رمزا لأزمة إسبانيا ومتاعبها الاقتصادية.
مع ذلك، من الناحية السياسية، القصة الحقيقية هي ما حدث بعد ذلك - أو ما لم يحدث. رغم جميع أوجه التشابه الواضحة مع الولايات الصناعية في الولايات المتحدة التي تعرضت للأزمات أو المعاقل الصناعية التي أصيبت بأذى بالغ في كل من إنجلترا وفرنسا، لم تشهد فيلاكانياس أي رد فعل شعبوي عنيف، ولم تتعرض كذلك لأي موجة مضادة للمهاجرين أو ثورة ضد العولمة. على الرغم من التدهور الاقتصادي الشرس والبطالة الجماعية، صمد تيار الوسط السياسي في مدن مثل فيلاكانياس، وفي جميع أنحاء إسبانيا.
بعد مرور عقد على بداية الأزمة، لم تشهد إسبانيا حتى الآن وصول حزب شعبوي يميني متطرف مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، وهو منصة مناهضة للهجرة شبيه بحزب البديل لألمانيا، أو حركة معادية للتكامل الأوروبي مثل حزب الاستقلال في المملكة المتحدة.
خارج إسبانيا، كان هنالك عدد قليل فقط من البلدان الأوروبية الأصغر حجما، بما فيها البرتغال وإيرلندا، القادرة على مقاومة تلك الموجة. لكن استطلاعات الرأي الأخيرة ونتائج الانتخابات كلها تشير إلى نفس النتيجة: أن الأغلبية الساحقة من الإسبان يؤيدون عضوية الاتحاد الأوروبي، ولا يزالون غير متأثرين من موضوع الهجرة.
يقول خوسيه مانويل كارمونا، عضو المجلس المحلي لمدينة فيلاكانياس التابع لـ "الحزب الشعبي" من يمين الوسط، الحزب الحاكم في حكومة أقلية "الناس هنا يشعرون بالقلق بشأن فرص العمل، وليس بشأن المهاجرين. إذا كان هنالك من يجب أن نلقي عليه باللوم في التسبب في حدوث هذه الأزمة، فهم رجال السياسة".
تميزت المشاعر نحو الاتحاد الأوروبي بشكل عميق بعقود من الإعانات المقدمة للمزارعين المحليين - بمجرد التعرض للأزمة - والمقدمة لإعادة تدريب العمال الذين تم تسريحهم خلال فترة التراجع الاقتصادي. يقول سانتياجو جارسيا آراندا، عمدة المدينة الاشتراكي "أعتقد أن السكان المحليين هنا يتفهمون أن الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مؤسسة تقدم لهم الأموال والدعم".

ظهور الاتجاه اليساري

ظاهريا، تبدو إسبانيا منذ فترة طويلة وكأنها هدف جاذب للأحزاب السياسية التي لديها رسالة مناهضة للاتحاد الأوروبي ومعادية للهجرة. منذ انهيار طفرة الإسكان، عانى البلد ركودا عميقا وارتفاعا حادا في البطالة وعدم المساواة. وكانت أزمة الميزانية تعني أنه يتعين على مدريد خفض الإنفاق وزيادة الضرائب - وهي تدابير أُلقي عليها اللوم جزئيا على الأقل بأنها نتيجة التعرض لضغوط الاتحاد الأوروبي. تدمرت الثقة بالنخب السياسية بسبب فضائح الفساد.
علاوة على ذلك، نشبت الأزمة في نهاية عقد شهد أعدادا غير مسبوقة من المهاجرين الوافدين. في عام 1998، كان المهاجرون يمثلون ما نسبته 3 في المائة فقط من عدد السكان.
بحلول عام 2008، ارتفعت نسبة المهاجرين لتصل إلى 13 في المائة - واحدة من أعلى النسب في أوروبا - وفقا للبيانات الحكومية. ومع ذلك، لم يحصل الحزب اليميني المتطرف المعادي للمهاجرين على زخم سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي.
في الانتخابات العامة التي أجريت في حزيران (يونيو) الماضي، الحزب الوحيد الذي كاد أن ينطبق عليه الوصف المذكور، هو الحركة التي تدعى فوكس التي يبلغ عمرها ثلاث سنوات، الذي حصل على ما نسبته 0.2 في المائة فقط من أصوات الناخبين.
كان المستفيد السياسي الرئيسي من الأزمة هو اليسار المتطرف، وليس اليمين المتطرف. منذ إنشائه قبل ثلاث سنوات، ظهر حزب بوديموس المناهض للتقشف على أنه قوة قوية، بفوزه بـ 21 في المائة من الأصوات على مستوى البلد في العام الماضي. وهو بذلك، من نواح عدة، يعتز بكونه حركة شعبوية، احتشد قادته ضد النخب وليسوا معارضين لاستخدام الخطاب الذي يثير الفُرقة.
مع ذلك، ليست هناك قواسم مشتركة تذكر ما بين قاعدة المؤيدين للحزب ومنصته السياسية وبين الشعبويين في اليمين المتطرف: عادة ما تجد الداعمين لحزب بوديموس ما بين فئة الشباب المتعلم وسكان المدن، الذين يتسمون عادة بالانفتاح على موضوع الهجرة ويدعمون عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي.
بالتالي، ما الذي يفسر الاستثناء الإسباني؟ يقول المحللون "إنه ليس هنالك سبب واحد، بل هنالك مجموعة خاصة غير منتظمة من المسببات والظروف. أحد العوامل الواضحة هو عدم وجود قيادة قوية".
وهناك عامل آخر هو الإرث المعقد لديكتاتورية فرانكو، التي غرست نزعة تشكك عميقة نحو الحكم السلطوي اليميني. كما أن هنالك أيضا تفهما جماعيا مشتركا بأن الأوقات الصعبة ترغم الناس على السعي إلى الحصول على فرص عمل في الخارج - كما فعل كثير من الإسبان خلال فترة الستينيات، ومن ثم خلال فترة الأزمة مرة أخرى.
هناك سبب رابع يقدمه الباحثون، وهو طبيعة تدفقات المهاجرين الأخيرة الوافدة إلى إسبانيا: حيث إن كثيرا من الوافدين الجدد يأتون من الإكوادور وبيرو وغيرها من دول أمريكا اللاتينية الأخرى.
لقد كانوا غرباء، لكنهم غرباء مألوفون - يتكلمون اللغة نفسها، وديانتهم وثقافتهم هي مثل سكان البلد الأصليين.
مع ذلك، تلك التفسيرات صحيحة إلى حد معين فقط. أمريكا اللاتينية استأثرت بالفعل بعدد لا يستهان به من المهاجرين الوافدين، لكن أكبر مجموعتين من هؤلاء الوافدين جاءتا من رومانيا والمغرب.
وفقا للبيانات الرسمية، هنالك 1.4 مليون مهاجر من هذين البلدين يعيشون في إسبانيا – أي نحو ثلث عدد السكان الأجانب.
للحصول على فهم أعمق لحالة الصمود في إسبانيا، هنالك عنصران من العناصر الإضافية التي تساعد على استثناء هذا البلد: الهوية الوطنية ونظام الرعاية الاجتماعية.
تقول كارمن جونزاليس إينريكيز، كبيرة المحللين في مركز الأبحاث "معهد ريال إلكانو"، "الفرق الرئيسي ما بين إسبانيا وغيرها من البلدان الأوروبية الأخرى هو أنه في هذا البلد لا يرى الناس وجود أي ارتباط ما بين الهجرة والهوية الوطنية".
الإحساس بالهوية الوطنية هو بشكل عام ضعيف في إسبانيا، فأنت تسمع أحيانا شكاوى محلية. يقول الناس "كل المتاجر المحلية أغلقت". أو، "لقد تغيرت هذه القرية كثيرا، لكن لا يتم التعبير عن ذلك بأي شكل من الأشكال السياسية أبدا".
في تقرير مقبل لمعهد إلكانو وديموس، مركز الأبحاث البريطاني، تقول جونزاليس "إن تشكيل الإحساس بالهوية في إسبانيا لا يزال يتم من خلال تجربة الديكتاتورية".
كما تقول "الاستخدام المفرط للرموز الوطنية والإشارات إلى الهوية الوطنية خلال عهد فرانكو تسبب في ظهور حركة معاكسة لا تزال قائمة إلى الآن.
ومعارضة النظام الموالية للديموقراطية رفضت عرض الرموز الوطنية والعلم والنشيد الوطني، وكانت النزعة الوطنية الإسبانية غائبة تماما عن ذلك المسار. بدلا من ذلك، كانوا يتطلعون إلى أوروبا".
حتى في الوقت الحاضر، لا يزال الارتباط بأوروبا والاتحاد الأوروبي قويا.
وفقا لاستطلاع رأي أجري لإتمام الدراسة التي قام بها معهد إلكانو ومركز ديموس، يرغب 10 في المائة فقط من الإسبان مغادرة الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنسبة بلغت 22 في المائة في فرنسا و45 في المائة في المملكة المتحدة "رغم أن أكثر من نصف الناخبين البريطانيين اختاروا مغادرة بلادهم للاتحاد الأوروبي في حزيران (يونيو) الماضي".
هذا المستوى من التأييد هو علامة على وضع إسبانيا كبلد يستقبل تمويلا صافيا من الاتحاد الأوروبي، لكنه أيضا علامة على عوامل مادية أقل. بالنسبة إلى كثير من الإسبان، لا يزال الاتحاد الأوروبي يمثل الحداثة والتقدم - في الوقت الذي توفر فيه عضوية إسبانيا في التكتل مصدر طمأنينة بأن البلد انضم أخيرا للتيار الأوروبي الرئيسي.

التركيز الإقليمي

يجري تعقيد الجاذبية السياسي للهوية الوطنية الإسبانية بسبب التوتر طويل الأمد ما بين الدولة المركزية وأقاليمها، خاصة كاتالونيا والباسك.
يطالب كثير من سكان كاتالونيا والباسك بهوية وطنية لا تكون فقط متميزة ومنفصلة عن الهوية الإسبانية، بل هوية تكون في صراع مباشر معها. لدى كلا الإقليمين حركات انفصالية قوية تأمل في إقامة دولة مستقلة لها وبالتالي الاستقلال عن إسبانيا.
بالنسبة إلى أي حركة يمينية متطرفة تسعى إلى تنشيط المشاعر القومية، يمثل هذا مشكلة فورية. إذا حاول قادة تلك الحركات الاستفادة من الاعتزاز الإسباني، فإنهم يتعرضون لخطر فقدان الدعم في اثنين من الأقاليم المهمة التي تمثل نحو ربع إجمالي مجموع السكان في إسبانيا البالغ 47 مليون نسمة. إذا تمكنوا من الطعن بشكل حصري في الهوية الوطنية لكل من إقليم كاتالونيا أو إقليم الباسك، فإنهم بذلك ينأون بأنفسهم عن بقية أجزاء إسبانيا.
في الوقت نفسه، سمح الصراع السياسي القائم ما بين إسبانيا والأقاليم بأن يتمكن الحزب الشعبي الحاكم، بقيادة ماريانو راخوي، من حماية الجناح اليميني المتطرف دون تأجيج أو محاباة المشاعر المناهضة للمهاجرين.
يقول كريستوبال روفيرا كالتواسر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دييجو بورتاليس في سانتياجو في تشيلي "استطاع الحزب الشعبي الحاكم أن يبقى حزبا يمينيا جامعا، جزئيا لأن لديه رسالة قوية تتعلق بالدفاع عن وحدة أراضي إسبانيا. وهذه قضية أساسية بالنسبة إلى الناخبين في المعسكر اليميني".
عدا عن عوامل التوتر في إسبانيا بين المركز والأقاليم الطرفية، يسلط المحللون الضوء أيضا على نظام الرعاية الذي يمنح إمكانية وصول كبيرة لخدمات أساسية كالرعاية الصحية والتعليم، لكنه يوفر القليل فيما يتعلق بالسكن الاجتماعي ومدفوعات الدعم المباشر.
يقول خوسيه فيرنانديز-ألبرتوس، المحلل السياسي في مركز CSIC للبحوث في مدريد "لا يوجد مثل هذا الصراع الموجود في البلدان الأخرى ما بين السكان الأصليين والسكان غير الأصليين فيما يتعلق بشؤون الرعاية.
إسبانيا لديها خدمات عامة جيدة، لكن حين يتعلق الأمر بالإسكان والمنافع النقدية، فهي ضعيفة للغاية. وهذان الجانبان هما بالضبط المجالان اللذان يُبرِزان للعيان أن الدولة تقوم بالتحويلات من قطاع سكاني إلى قطاع آخر".
نتيجة لذلك، العناوين الرئيسية حول أن الأجانب يطالبون بالمنافع وأن عائلات المهاجرين تعيش على مخصصات الرعاية الاجتماعية هي نادرة في إسبانيا. يقول سيرجي باردوس برادو، وهو باحث لدى جامعة أكسفورد "جزء من هذا هو دائما حول التنافس على الموارد. عندما لا تكون هناك موارد للتنافس عليها، تتناقص إمكانية النزاع".
هذه حجة تسير جنبا إلى جنب مع سمة أخرى لأزمة إسبانيا: حقيقة أن المهاجرين في العادة مسَّهُم الأذى بصورة أقسى بكثير من السكان الأصليين، الذين يستطيعون الاعتماد على الشبكات العائلية للتخفيف من وقع الصدمة. أما العمال الأجانب فليست لديهم شبكة أمان يمكن أن يلجأوا إليها. كما يشير فيرنانديز-ألبرتوس إلى أن "من الصعب موضوعيا المجادلة بأن إسبانيا عاملت المهاجرين إليها بشكل جيد فوق الحد خلال الأزمة".
بالعودة إلى فيلاكانياس، هذا هو بالتأكيد الانطباع لدى السكان المحليين الذين مسَّهُم أذى كبير. في أوج الطفرة، كان المهاجرون يشكلون 5 في المائة من سكان البلدة – لكن حصتهم تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات التي انقضت منذ ذلك الحين.
يقول جارسيا أراندا "حين وقعت الأزمة، ما كان من معظمهم سوى مغادرة البلدة".
بالنظر إلى المرحلة المقبلة، يُعرب معظم المختصين عن ثقتهم بأن إسبانيا ستستمر في مقاومة صعود اليمين المتطرف الشعبوي. معظم العوامل التي تُفسر الحالة الاستثنائية لإسبانيا متجذرة عميقاً في تاريخها ومجتمعها، وبالتالي من غير المرجح أن تتغير على المدى القصير.
الأكثر من ذلك، هو أن إسبانيا في خِضم انتعاش - النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 3.2 في المائة العام الماضي - يُشير إلى أن بعضا من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية سينحسر.
بالنسبة إلى زعماء الوسط السياسي في أوروبا، قصة إسبانيا بعد الأزمة توفر بصيصا من الأمل - لكن ليس أكثر بكثير من مجرد بصيص. الاستثناء الإسباني ليس نتيجة السياسات الذكية بقدر ما هو نتيجة المصادفات التاريخية والاتجاهات الاجتماعية المعقدة التي من الصعب تكرارها. صنّاع السياسة في برلين وبروكسل ولندن سيجدون كثيرا من الإعجاب في صمود إسبانيا أمام رد الفعل الشعبوي - لكن ليس كثير من الأمور التي يحتاجون إلى نسخها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES