FINANCIAL TIMES

تعزيز التجارة .. أفضل طريقة لتواصل المجتمعات

تعزيز التجارة .. أفضل طريقة لتواصل المجتمعات

الإنسانية ذات طابع قبَلي. نحن حيوانات اجتماعية وثقافية. والثقافة تجعلنا نتعاون ليس فقط في نطاقات الأسرة، لكن أيضاً في مجتمعات خيالية. من كل هذه المجتمعات لا يوجد ما هو أقرب إلى العائلة من "الأمة"، وهي كلمة تدل على أصل مشترك.
القدرة على خلق مجتمعات خيالية هي نقطة قوة الإنسانية ومن بين أكبر نقاط ضعفها. المجتمع الخيالي يُحدد ما يتشاركه الناس، لكن ما يربطهم معاً يفرّقهم عن الآخرين. اليوم، كما في الماضي، يقوم القادة بتأجيج مشاعر القومية المظلومة لتبرير الاستبداد وحتى الحرب.
خلال جزء كبير من التاريخ البشري، كان يُنظر إلى الحرب باعتبارها العلاقة الطبيعية بين المجتمعات. الفوز جلب النهب، والسلطة والهيبة، على الأقل للنخب.
حشد الموارد للحرب كان بمنزلة دور أساسي للدول، وتبرير مثل هذا الحشد كان بمنزلة دور أساسي للثقافة.
هناك طريقة أخرى موجودة لتحقيق الازدهار: التجارة. التوازن بين التجارة والنهب هو أمر معقد. كلاهما يتطلب مؤسسات قوية تدعمها الثقافات الفعّالة، لكن الحرب تتطلب الجيوش، المدعومة بالولاء، بينما التجارة تتطلب الأمن المدعوم بالعدالة.
لعل أكبر مساهمة لعلم الاقتصاد هي فكرة أن المجتمعات ستكسب من السعي للتجارة مع بعضها بعضا أكثر من محاولة الاستيلاء على بعضها بعضا، علاوة على ذلك، كلما كان شركاؤها أغنى، كانت الفرص أكبر لإثراء التجارة بشكل متبادل. بالتالي فإن العلاقة الحكيمة بين الدول هي التعاون، ليس الحرب، والتجارة، ليس العزلة.
ويتبين أن هذه الفكرة الرائعة هي صحيحة، لكنها أيضاً غير بديهية، حتى أنها مُثيرة للقلق. فهي تعني أننا قد نكسب من الأجانب أكثر من المواطنين في بلدنا.
كما تؤدي إلى تآكل الشعور بالانتماء إلى القبيلة الخيالية. بالنسبة لكثيرين، تآكل الولاء القبلي المذكور يعد خطراً. ويُصبح أكثر خطراً إذا سُمح للأجانب بالهجرة بحرية. ويتساءل الناس، من هم هؤلاء الغرباء، من يسكن في بلدنا ويُشاركنا فوائده؟
فكرة أن أفضل طريقة لتتواصل المجتمعات مع بعضها بعضا هي عبر إثراء التجارة بشكل متبادل هي الفلسفة المؤيدة للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يعقد اجتماعه السنوي في دافوس هذا الأسبوع، حيث يؤكد أفضلية التجارة على الصراع وما يتشاركه الناس على ما يفرق بينهم.
إنها عقيدة جيدة، لكن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية من حزب المحافظين، تدين المؤمنين بها بكونهم "مواطني العالم"، الذين هم ليسوا مواطنين في أي مكان.
الاستياء الذي تُثيره مُبرر، إلى حد ما. الذين حققوا أداءً جيداً من العولمة والتحوّل في فترة ما بعد الشيوعية لم يعطوا اهتماما يذكر للذين لم يفعلوا. لقد افترضوا أن المد المرتفع يرفع كل القوارب.
هم ازدهروا بشكل هائل، غالباً مع القليل من التبرير الواضح. وخلقوا أزمة مالية دمّرت سمعتهم من الاستقامة والكفاءة، مع نتائج سياسية وخيمة. هم افترضوا أن أواصر الانتماء التي لم تكن تعني كثيرا بالنسبة إليهم هي أيضا لم تكن تعني كثيرا للذين تُركوا في الخلف. ليس من المستغرب أن الذين يجدون العالم قد تغيرت طبيعته بسبب التغيير الاجتماعي والاقتصادي، استسلموا لمشاعر القومية المضطهدة والحمائية.
سياسة الاستياء القومي ليست مجرد تصاعد من الأسفل، إنها تكتيك الباحثين عن السلطة. القصص التي يرويها مثل هؤلاء القادة تختلف في التفاصيل، لكن الجوهر دائماً ما يكون هو نفسه. فهم يميزون بين الشعب "الحقيقي" الذي يدعمهم من "أعداء الشعب". بالنسبة لهم، الحياة هي حرب. في الحرب، بإمكانهم تبرير أي شيء.
قصتهم تُبرر تحويل الديموقراطية الليبرالية إلى ديكتاتورية ديموقراطية. في مقالة رائعة، المُحلل البولندي، سلافومير سيراكوفسكي، يُحدد كيف يعمل هذا في بلاده.
الطاغية المستقبلي يدين الحرية الشخصية باعتبارها فوضى، ويقيّد المؤسسات باعتبارها غير شرعية، والمصادر المستقلة للمعلومات باعتبارها فاسدة، والأجانب باعتبارهم منافقين، والمهاجرين بأنهم يشكلون تهديدا للبلد.
تنمية الشعور بجنون العظمة يُبرر كل خطوة. الطاغية المستقبلي يحتاج إلى أعداء. دائماً ما يكون من السهل العثور عليهم، وأثناء كل ذلك، يؤكد الطغاة المستقبليون أن الأغلبية إلى جانبهم (حتى إذا لم يكُن الأمر كذلك).
الهجوم على فكرة المصادر المستقلة للمعلومات هو عنصر أساسي في سياسة الحاكم الأوتوقراطي ضمن الديموقراطية. كيف يتم تحديد الحقيقة من قِبل مثل هذه الأنظمة؟ الحقيقة هي ما يقولون إنه الحقيقة. لذلك فإن السلطة تُحدد الحقيقة، هذه سمة من سمات كل الديكتاتوريات، ولا سيما الشيوعية منها، كما أخبرنا جورج أورْوِل. وهي أيضاً ما يؤمن به رؤساء كثيرون، لا داعي لذكر أسمائهم، الحقيقة لديه هي أي شيء يجده مريحا اليوم.
الولايات المتحدة هي إلى حد كبير المثال الأكثر أهمية. بالتالي إلى أي مدى يمكن أن يأخذ ترامب بلاده إذا ما سلك طريق الرحلة تلك؟ الإجماع هو "ليس بعيداً"، نظراً لقوة مؤسساتها.
المؤسسات قوية فقط بقدر الناس الذين يُديرونها، عندما أصبح أغسطس إمبراطورا، كل مؤسسات الجمهورية الرومانية نجت، هل سيُدافع القضاء الأمريكي عن حرية التعبير؟ هل سيُدافع المشرّعون عن الحق بالتصويت؟ أم هل سينجح الرئيس بترهيب الذين يختلف معهم في الرأي؟ ماذا يمكن أن يحدث إذا وقع اعتداء إرهابي؟
يُشير سيراكوفسكي إلى أن ياروسلاف كاتشينسكي في بولندا قد احتضن دولة الرفاهية. ترمب، أيضاً، فاز بالقاعدة الجمهورية من خلال تأكيد دعمه للبرامج، التي يعتمد عليها الأمريكيون العاديون، لكن القادة الجمهوريون يرغبون في القضاء عليها نجاحه قد يعتمد على ما إذا كان سيتمسك بوعوده أو بحزبه. يوفال هراري جادل أخيرا أن "رغم كل خيبة الأمل بالديموقراطية الليبرالية والأسواق الحرة، لم يُشكّل أي أحد بعد رؤية بديلة تتمتع بأي نوع من الجاذبية العالمية". هذا صحيح، لكنه خارج الموضوع، القومية الاستبدادية ربما لديها مثل هذه الجاذبية، لقد انتقلت إلى قلب النظام العالمي، وهذا من شأنه أن يُغيّر كل شيء.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES