ثقافة وفنون

رقمنة الذاكرة .. «إحالات متتالية» تقمع الجنس البشري

رقمنة الذاكرة .. «إحالات متتالية» تقمع الجنس البشري

رقمنة الذاكرة .. «إحالات متتالية» تقمع الجنس البشري

ما أشبه الليلة بالبارحة؛ مع تسجيل فارق زمني يقدر بآلاف السنين، وكأن التاريخ يعيد نفسه بخصوص موقف الكثيرين منا تجاه الإلكترونيات أو ما يعرف بالرقميات بصفة عامة، والإنترنت على وجه التخصيص، الذي لا يختلف في كثير من جوانبه عن الموقف من الكتابة في بداية ظهورها.
يحكي الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في "العلامة تحليل المفهوم وتاريخه" أن الأقدمين رفضوا رفضا باتا قبول الكتابة كوسيلة مستحدثة للتواصل، ورديفا مبتكرا يضاف إلى الذاكرة. وعلتهم وراء رفض الأداة الجديدة قائمة لجهة الخطر التي تمثله على مستقبل الإنسانية، وعلى قدرتها في الاستمرار في تخزين المعارف بنفس قوة الذاكرة، وربما أكثر منها.
فهي - والتعبير للسيميائي المغربي سعيد بنكراد -، تجمد الفكر وتشكل حركته وتأسره في علامات خرساء لا يمكنه الفكاك منها. وتحل محل الذاكرة؛ العضو الأساس في الوجود المادي والرمزي للإنسان. فالذاكرة - يضيف بنكراد -، تتجاوز الدور التخزيني لتتحول إلى أداة مثلى في الحفاظ على التنوع البشري، فالتذكر مدخل للوجود الرمزي، وممر أساسي نحو إنتاج الثقافة وتداولها خارج إكراهات المكتوب الماثل أمام العين بشكل مباشر.
تمنح البدائل الاصطناعية لـ "جيل التطبيقات" بتعبير عالم النفس الأمريكي هوارد كاردنر Howard Gardner، في كتاب بذات العنوان رفقة كاتي دافيد Katie Davis، الأعضاء قوة إضافية، لكنها مع مرور الزمن يرتد الأمر عكسيا، فيضعف هؤلاء ويتحولون تدريجيا إلى مجرد منفذين كسولين للوظائف والتعليمات.
لا يبالي المبشرون بالثقافة الإلكترونية كثيرا بمثل هذا الوضع، ومن بين هؤلاء الفيلسوف الفرنسي المختص في تاريخ العلوم ميشيل سير Michel Serres، الذي يرى أننا نعيش على وقع قفزة معرفية جديدة بالنسبة إلى الإنسانية، إذ يتيح العصر الرقمي انتشارا غير محدود للمعارف، كما أن لعبة الربط بين النصوص المتداخلة فيما بينها تدفع إلى الإبداع بإيجاد جسور بين المعارف المنتمية إلى ميادين مختلفة. بينما كانت المعرفة في السابق، على حد تعبير الرجل، تتقسم على شكل طوائف. وتتيح اليوم قراءة علاقة التداخل بين النصوص إيجاد جسور معرفية غير مسبوقة Petite Poucette 2012.
قول كهذا يحمل من التعميم الشيء الكثير، وواهم من يعتقد أن الدخول إلى الفضاء الافتراضي للمعرفة الذي يقدمه الإنترنت هو دخول شبيه بتصفح كتاب أو موسوعة أو أي سند آخر. إن ميزة هذا الفضاء الأساسية ما سماه أحدهم بـ "الإحالات المتتالية"، التي لا يمكن أن تتوقف عند حدود بعينها.
وهو ما اعتبره الكاتب والصحفي الأمريكي نيكولا كار Nicolas carr صاحب الكتاب المثير للجدل في الأوساط الأمريكية عام 2010 "التسطيحا: تأثير الإنترنيت في عقولنا"The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains بمنزلة استغباء للجنس البشري.
التردد والمحافظة والخوف سمة ملازمة لجزء من المجتمع البشري، بهذا يجيب صاحب مجرة جوتنبرج الأكاديمي الكندي المتخصص في وسائل الإعلام مارشال ماكلوهان Marshal Macluhan؛ منعشا في الذاكرة نفس الأقاويل والردود التي كانت على التلفاز عقب انتشاره، قبل أن يؤكد على مسار المواطنين الرقميين يتجهون نحو توحيد العالم، وجعله قرية عالمية أكثر تسامحا وتعاطفا وإبداعا.
هنا يحق لنا أن نذكر ماكلوهان بأن الإبداع درجات مع ما يرافقه من طقوس، لا حضور لها في غمرة الفائض والإسهال الذي يغزو المنصات الإلكترونية. لقد بات الكتاب والمكتوب والمطبوع والمخزن في رؤوس الكائنات البشرية، مهددا بآلة افتراضية بلا قلب ولا روح؛ آلة قادرة على اكتساح كل شيء في طريقها. استنادا إلى ما تقدمه الشاشة مباشرة مما تخزنه الأقراص.
وقد يجيبنا آخر بأن العصر الرقمي يتجه ليكون نمطا في الوجود، وسببا من أسباب انبثاق علاقات إنسانية من نوع جديد، علاقات تستوعبها السرعة والبساطة في كل شيء: في التنافس الاقتصادي، ونشر المعارف، والاطلاع على الأحداث، وتصريف العواطف والانفعالات.
لكنه يتناسى عند الإجابة أنه يقتل من حيث لا يدري أشياء كثيرة لها دلالات في تاريخ الإنسانية الطويل، منها ما أنذرت ومنها ما يحتضر حاليا. ألم يكن الخط في السابق مثوى لروح الكاتب، ففيه يودع أفكاره، وفيه يودع جزءا من انفعالاته. أما الآن فقد اختفى من على وجه الصفحة ذلك الارتعاش والتردد والحرف المدغم والرقيق، واختفى التشطيب والحذف والزيادة والحواشي، لتحل محل كل ذلك آلة صماء عمياء تكتب كل المضامين بنفس الحياد ونفس البرودة: شيء ما ضاع واختفى إلى الأبد.
وعن وهم الصداقات والعلاقات الإنسانية المترابطة والمتشابكة التي يدخل فيها "جيل الإنترنت" تجيبنا الأكاديمية الأميركية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT في جامعة كمبريدج شيري توركSherry Turkle في كتاب لها بعنوان صادم لكتابها الصادر سنة 2011 "وحيدون جماعة" Alone Together.
يظهر أن "التشاؤل"، على حد تعبير إميل حبيبي، سيد الموقف حيال الغزو الرقمي والحصار الذي يشتد طوقه علينا يوما بعد آخر، فبقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى تلك المنافع والفوائد الجمة التي يقدمها عالم الرقمنة، نكون بالمثل متوجسين من خبايا وأخطار هذه العوالم الافتراضية بما تحمله من انتهاك للخصوصية وإرهاب ومراقبة وإدمان وما إلى ذلك من الظواهر التي رافته، وبين هذا وذاك يبقى الحل في نظر البعض هو "السبات الرقمي".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون