ثقافة وفنون

ثيودور أدورنو: الجماهير ليسوا معيار صناعة الثقافة

ثيودور أدورنو: الجماهير ليسوا معيار صناعة الثقافة

إن كان ثمة مأثرة تلمع في ميراث الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو من بين مآثره العديدة، فهي خروجه الواثق والواعي والمستمر عن التقاليد الأكاديمية، وإفساح المجالات القصوى أمام آرائه التي تمردت على السائد، وخرجت عن النصوص، وفضّت الصناديق المغلقة، وأضرمت النار في السائد والمعروف والمتطامن عليه.
وما انفك أدورنو يؤكد أن "الحرية ليس أن تختار بين الأسود والأبيض، بل أن تبتعد عن الاختيارات المحددة مسبقا"، لذا راح ينتقد الفاشية ويعتبرها أحد التجليات الطبيعية للرأسمالية، مناكفا النظرة التقليدية التي تقول بخلاف ذلك.
وفي مقاله المشترك مع ماكس هوركهايمر "صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير" الذي ورد كفصل في كتاب "جدليّة التنوير"، رأى أدورنو أن الثقافة اليوم تتعلّق بالمجتمع الصناعي، وبالتالي تتحول إلى ثقافة متجانسة، من حيث إن الأسعار المختلفة للمنتوجات لا تعكس اختلاف الجودة، بل توفّر ترتيبا هرميّا للمنتوجات بجودات "مختلفة" تناسب أفرادا بمستويات مختلفة؛ أي أن المستهلكين تحوّلوا إلى مادة ثابتة يتم تقسيمهم إلى تصنيفات تحتوي على أنماط جاهزة.
استعمل أدورنو وهوركهايمر مصطلح "صناعة الثقافة" كبديل عن مصطلح "ثقافة الجماهير"، بهدف إلغاء كل التفسيرات التي تدّعي أن هذه الثقافة نبتت بشكل عفوي من الجماهير، أو أنّها صيغة الموسيقى الشعبيّة الآنيّة.
إنهما يريان أن صناعة الثقافة نبعت من سيرورة جدليّة الحضارة التي سيطر فيها الإنسان على الطبيعة، وبما في ذلك سيطرة الإنسان على الإنسان الآخر، وأنّه لا يمكن تجسير الفجوة بين الفن المستقل وصناعة الثقافة؛ إذ مع أن الفنون كانت دوما سلعة، إلا أنّها لم تكن يوما سلعة فقط. بالمقابل، صناعة الثقافة هي فقط سلعة من دون الحاجة لإثبات ذلك، لأنها تعرّف ذاتها كـ "صناعة"، ما يجعلها جزءا من الواقع، وليس فنّا. لذا فالجماهير ليسوا معيار الحقيقة لصناعة الثقافة، بل أيديولوجيّتها، فصناعة الثقافة توهم مستهلكيها بأنها تكيّف ذاتها مع ردّة فعل الجماهير، بينما في الواقع هي التي تكوّنه، وتمنح الجماهير عدّة منتوجات متشابهة تعمل على ترفيههم بدلاً من صدمهم وزعزعة الوضع الراهن. بهذه الطريقة تضعف "الأنا"، وتختفي ماهية الفن، وصولا إلى ما سمّاه: "نزع الفن عن الفن". كما راح ينقّب في آليات صناعة المستبد، وعلى النقيض من ذلك أيضا مضى ينبّش عن فلسفة الجمال المضمرة في الأشياء والمفاهيم والأفكار، وفي الشارع، وفي السلع، وفي اقتصاد السوق المفتوح، وحفر عميقا في الموسيقى وذاكرتها، حيث قدّم تصوره بشأن استقلال العمل الفني، وبأن الأعمال الفنية الأصيلة تميل إلى الكلية. ولذا، فالفن هو الذي يحيي الحق، ويمثل دور المعارضة الحقيقية والدعوة إلى الانعتاق في "حضارة الصناعة".
وعاين أدورنو، بعمق، ماهية الإنسانيّة، التي ألمح إلى أنها اندثرت وتحوّلت إلى منظومة وظائف اجتماعيّة. كما اندثرت ماهية الفن أيضا ولم تعد مستقلة. فبحث في ما سمّاه "فشل المنطق" الذي بلغ ذروته أثناء أحداث القرن الـ 20 الكارثيّة. واهتم، بشكل خاص، بتغيير الوعي الذي أدّى إلى سيطرة هذه الأنظمة الفاشيّة والنّازيّة، في حين أن مشروع "جدليّة التنوير" بدأ كإشكاليّة فلسفيّة وموضوع فلسفي، استمرّ كبحث اجتماعي- نفسي للوعي البشري. ورأى الفيلسوف الألماني أن خطورة سيرورة التنوير لا تكمن فقط في عدم إبراز الفردانيّة بالفعل، بل أيضا في خلق منطق موحّد لدى جميع البشر، وبالتالي يصبح الوعي محافظا. كما تستطيع هذه السيرورة احتواء المقاومة، وبالتالي منع أي ردّة فعل. وفي النهاية، تُقحم سيرورة التنوير هذه على الإنسان أنماط تفكير استبداديّة تتجاوب مع أساليب معروفة سلفاً، وليس بمنطق التعامل مع مخرجات الواقع.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون